لطالما يثبت الأصولي الإسلامي ابن المدينة حاجته إلى الريف والقبيلة، وإلا من غير هذا ستبقى أصوليته، على أرض العمل، محنطة في المدونات والدساتير الأصولية. هذه مشكلة بالفعل كانت تقع بها الثقافة الإسلامية على مر تاريخها، والتي ورثها أصوليو القومية العربية وأحزابها. الريف والقبيلة هما بالنسبة الى هذين الطرفين الأصوليين خزانات بشرية سوسيولوجية تُستمد منها الجموع الهائجة، بل حتى كأدوات سياسية وعسكرية. وإذا كان من النافل القول إنّ تأصيل الأصولية الإسلامية بالمدينة وربطها بها ليس حتماً تاريخياً، بيد أنّ هذا لم يكن لينفي مكراً تاريخياً ما زال مستطيلاً في الثقافة الأصولية الإسلامية، وهي أنّ معظم الدعوات الأصولية على مرّ التاريخ الإسلامي، وبخاصة الحديث، قد ولدت أولاً من فضاء المدينة الذي يتمتع إسلامه، وفق إرنست غيلنر، بلبنات الإسلام المدني. لكن مثل هذه الولادات المدنية لم تكن لتعفيها من أنْ تخون المدينة التي صعدت منها وذلك من طريق استعانتها بأصوات «حربجية» ريفية: لا يمكن علماء المدينة وطهرانييها (ومعهم طيف من بورجوازيات المدينة) أن يكون لهم موطئ قدم سياسي وعسكري إلا من خلال عناصر لهم من أهل الريف أو الهوامش أو الإسلام القبائلي الذين يمثلون تعبيرات الإسلام الشعبي. هذه الحال تذكر بما تقوم به التحولات في الهوامش: من صيادين إلى كلاب صيد يعملون كعناصر عند إحيائيي وأصوليي المدينة. بيد أنّ الذي كان يحدث، وما زال، أنه غالباً ما كانت الأصوات الريفية تنقلب على أسيادها الأصوليين في المدينة، لتغدو الحال تالياً أنّ العناصر القبلية والريفية هي من سيسيطر على أسياد أصوليي المدينة، وإنْ تسنى الأمر على مقاليد حكم المدينة الإسلامية. غيلنر هو القائل مرة إنّ الحكومة في المجتمع الإسلامي هي «هدية القبيلة للمدينة، وبمعنى ما الدولة قبيلة انتقلت من الصحراء إلى القلعة أو الثكنة، وهي تحلب المدينة بدلاً من أنْ تحلب قطعانها» (لكن للمفارقة أنّ شرعنة حكم العناصر الريفية والقبلية كانت دائماً تتم باسم المركز لا الريف والقبيلة. انظر مثال حافظ الأسد). وبالطبع لم تكن لتقتصر هذه الحال على الأصولية الإسلامية فحسب، بل أيضاً تعدت لتمتد أيضاً إلى الضفاف الأخرى الأصولية من الأدلوجات القومية العربية في المشرق العربي، وبخاصة تلك التي تمسحت بـ «علمنةٍ ما»، والتي اعتاد أنبياؤها أنْ يبنوها على طريقة «من كل واد عصى». خذ مثلاً «بعث البعث العربي»، الذي خرج من صوتين (صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق) كانا يحملان بعضاً من الخيوط المدنية لحي الميدان الدمشقي، فإنه على رغم المدنية المفترضة لهذه الأداليج الأصولية، إلا أنّ طريقها كان يجب أنْ يمر من الأرياف، والتي هي بدورها ستنقلب لاحقاً على صوتي الميدان الدمشقي وتستولي على سلطة المدينة (مثلاً مع ما جرى مع الحركة المهدية في السودان وكثير من حركات الكفاح القومي والأصولي المسلح). والحال، أنّ أحد الأسباب المهمة لفشل الأدلوجات القومية العربية هو أنها، بحياتها كلها في محيطها وبنائها البارادايمي الأصولي، لم تتمدن، سواء أعني بالتمدن حداثياً في مساعيها الأيديولوجية أو بتمدن قياداتها التي بقيت أسيرة التناقض بين الريف والمدينة، فضلاً عن التناقضات في العمق الطائفي. ربما قد يُختلف كثيراً حول معنى التمدن والمدينة في الفضاء الإسلامي، وتحديداً في سياقات يتعذر فيها ضبطهما سوسيولوجياً أو بالأحرى حينما لا تكون فيها المدينة مدينةً ولا الريف ريفاً. لكن لندع هذا الخلاف جانباً ونؤكد ما هو إجرائي عادةً في ضبط هذين المفهومين، بمعنى أنّ هذه الأدلوجات لم تتبلور ضمن أطر ميكانيزمات المركز بل ضمن ميكانيزمات الأطراف، الريف والقبيلة. الأصولية السورية، بنسختها الإخوانية، تقارب ولادة ومسار (وربما مصير لو تسنى لها الاستمرار) بعث البعث العربي. لقد ولدت الحركة الإخوانية بالفعل من حاضنة حمص ومن ثم حلب ودمشق وحماة، بيد أنّ هذه الأصولية لم يكن أيضاً ليكتب لها الاستمرار «ميدانياً» (على الأقل حتى مرحلة صراعها مع نظام الأسد) من غير عناصر معسكرة من الريف. وفي الواقع، لو تعمقنا في هذه النقطة أكثر لرأيناها تمتد إلى إشكالات تاريخية عميقة تتعلق باللاهوت والسياسة الإسلاميين وارتباطهما بالمركز، مركز الولادة، والانقلاب عليه من الأطراف والهوامش الإسلامية (وهذه دائماً كانت تبدأ بمطالب تتعلق بالحريات والحقوق لتنقلب بعد ذلك). ما هو جدير ذكره هنا في هذا السياق أنّ معظم أصوليي المدينة كان يجب أنْ ينتموا إلى طبقة العلماء أو جناح المدارس الدينية التي هي غالباً ما «تدستر» الفكر الأصولي (لا ننسى أنه حينما قضي على الإخوان السوريين عسكرياً في الثمانينات استلم سدة الفكر الأصولي «العلماء»). ربما يمكن ضرب مثال مهم من التاريخ الإسلامي: السلاجقة الأتراك (الريفيون) الذين قدموا في أواسط القرن الحادي عشر إلى المدينة وحكموا البلاد الإسلامية فعلياً وبنوا امبراطوية سلجوقية، وللمفارقة باسم الخليفة العباسي الذين استمدوا شرعيتهم منه! النقطة المثيرة أنّ هذه الشرعية السلجوقية لم يكتب لها النجاح سوى من طريقين: الأدلوجة الرسمية، أي الخليفة العباسي (القلعة أو الثكنة)، والعلماء المسلمين الذين سيناط بهم أنْ يشرعنوا الحكم السلجوقي الريفي. لهذا يحسب للسلاجقة ذكاؤهم في شرعنة وجودهم من خلال البدء ببناء «المدارس» الدينية التي سيكون من مهماتها الشرعنة الإسلامية للسلاجقة (المدرسة النظامية ببغداد التي بناها السلاجقة مثال على ذلك). وهذا بالفعل ما أعطى الشرارة الأولى لأول «صعود سنّي» في مواجهة السيطرة الشيعية الفاطمية على معظم العالم الإسلامي. هذا المثال، وغيره الكثير، لا يعبر بالطبع على حتم تاريخي، كما قلنا، ملصق بظهر الثقافة الإسلامية، بيد أنه مكرٌ مستمر مناط بفاعلين يصرون دائماً على أنْ يبقوا على الضفة الأخرى من التاريخ: إنها بالطبع الضفة التي لم تنتج لنا إلا مسوخاً أيديولوجية في مسار التاريخ الأصولي والقومي. * كاتب سوري
مشاركة :