وسط مدينة طرابلس اللبنانية لم تتبدل ملامح «مقهى التل العليا» القائم منذ بنته الدولة العثمانية عام 1870 في القرن التاسع عشر... وما زالت هذه الفسحة المفتوحة على مداها والمقسمة أجزاء عدة المتنفس المحوري في حياة أبناء المدينة والقرى المجاورة لها. وتسمية المقهى التاريخي تعود إلى وجوده على تلة تشرف على مدينة طرابلس وساحة منطقة التل تحديداً بازدحامها وشعبيتها ومحالها التجارية وعشرات العربات المنتشرة في أزقتها، عارضة المنتجات المحلية المتنوعة والجذابة في تغليفها الخارجي. كما تشرف الفسحة على بلدية طرابلس. ويقال إن الهدف من بناء الفسحة كان في البداية لتحويلها إلى صرح بلدي، ولكن إثر مشكلة بين القيمين عليها تم تحويلها إلى مقهى. وتميز المقهى لكونه يضم صالة سينما صيفية في الهواء الطلق، وكانت الأفلام تعرض في ساعات المساء الأولى ويتابعها الرواد وهم يتناولون وجبة العشاء ويدخنون النراجيل المحضرة على الأصول بواسطة التنبك الأصلي الملقب بالأصفهاني، ويحتسون «الكازوزة البيضاء» والزهورات على أنواعها. وفي حين كانت البدايات مع الأفلام الصامتة، بيد أن السينما في هذا المقهى التاريخي واكبت التطور وباتت تعرض الأفلام الناطقة لنجوم كبار أمثال إسماعيل ياسين وليلى مراد وفريد الأطرش. وفي ستينات القرن الماضي اقتحمت الأفلام الهندية المقهى وبات لها عشاقها الذين ينتظرون بترقب أسلوبها العاطفي المفرط في سرد القصص. كما تميز المقهى بعرائش العنب وأشجارها المعمرة؛ ولكونها المساحة الخضراء الشاسعة وسط المباني المتلاصقة. وما زال حتى الساعة الأكثر شعبية من بين مقاهي المدينة، ويضم مختلف شرائح المجتمع الذين يقصدونه بحثاً عن راحة البال والقليل من الهدوء، على الرغم من كونه يبعد دقائق قليلة من زحام المدينة الطرابلسية، والوصول إليه من أكثر من مدخل ومن مختلف أرجاء طرابلس. ومع الوقت تطور المقهى ليصبح مطعماً في الوقت عينه مقدماً المأكولات اللبنانية عموماً والطرابلسية الشعبية، خصوصاً على اعتبار أن «ابن البلد» (الطرابلسي يطلق على مدينته تسمية البلد) يستسيغ الجلسات الطويلة في المقهى، ويمكن أن تستمر الجلسة الواحدة ثلاث ساعات. وكان تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات يقصدون «مقهى التل العليا» بحثاً عن الهدوء؛ ليتمكنوا من إنهاء دروسهم أو للتحضير لامتحاناتهم. وكانوا يتجمعون في غرفة كبيرة تحولت اليوم إلى مصلى ويمضون ساعات طويلة بين جدرانها. وكان أهل الشمال عموماً وأهل طرابلس خصوصاً يعلمون أنهم لدى زيارتهم المقهى سيجلسون جنبا إلى جنب مع كبار الشخصيات السياسية والثقافية والدينية والفنية؛ إذ كانت الفسحة ولا تزال ملتقى لكل مثقف يحلو له الجلوس ساعات طويلة محاطا بالأشجار والخضرة. وكان المقهى الشاهد على الكثير من الثورات التي ولدت في فسحته، كما كان أبناء المجتمع المدني يخططون لمظاهراتهم وهم يدخنون النرجيلة أو يحتسون كوب من الزهورات. في مطلع عام 1940 كان المقهى حكراً على الرجال، ولكنه اليوم يضم أجزاء عدة، منها للنساء، وأخرى للرجال، وجناح خاص بالعائلات، وفسحة كبيرة مخصصة لألعاب الأولاد. وفي حين أن بعض الأجزاء مفتوحة تناسب الطقس الجميل، بيد أن المقهى يضم أيضاً بعض الغرف المغلقة كي يستمتع الرواد بالجلسة خلال سقوط الأمطار. ورث محمود سعد الله عابدين الملقب بـ«أبو سعد» وشقيقه هذا المقهى التاريخي عن والدهما عام 1975 الذي كان يملكه منذ عام 1939. ترعرع أبو سعد في الفسحة المفتوحة على مداها وتعرف إلى المجتمع الطرابلسي بكامله فيها، كما كون مهاراته في التواصل مع الآخرين وهو يراقب أسلوب والده السلس في التعامل مع الكبار والصغار. وأصر أبو سعد على الحفاظ على الهندسة الأصلية للمقهى لكي يشعر «ابن البلد» بأن التاريخ لم يرحل مستأذناً من هنا، بل حافظ على طيفه ووقاره وذكرياته القادمة من مكان ما في حناياه. ومع حلول ساعات الصباح الأولى يجتمع الرواد على الطاولات المنتشرة في كل الزوايا ليلعبوا الورق أو ليتقاسموا لعبة «الدومينو» أو ليستمتعوا بلعبة «الطاولة - النرد». واللافت في المقهى أن عشرات الطلاب الصغار الذين كانوا في الماضي يرتادون المكان للدراسة أو لمرافقة العائلة، كبروا اليوم وصاروا أجداداً، وما زالت الفسحة هي ملتقاهم المحوري واليومي.
مشاركة :