يتحدث القرآن عن الموت ويجعله فاعلاً مؤخرًا دائمًا، والميتَ مفعولاً به مقدمًا دائمًا، من تلك الآيات: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (106) سورة المائدة، {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} (10) سورة المنافقون. وقد يأتي القرآن عكس ذلك لكن في آيات قليلة، وفي جعله فاعلاً مؤخرًا تبيان للحكمة النفسية من التأخير وهي أن الإنسان يرغب في أن يتأخر الموت، بل يتمنى ألا يأتيه أبدًا، ليستمتع بحياته. وإذا كان لا بد آتيًا.. فليتأخر، حيث تشير كتب (علم النَّفس التحليلي) إلى أن الموت مؤخر عن شعور الإنسان وتفكيره. يقول بوسوية: «إن اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت لا يقل شأنًا عن اهتمامهم بدفن موتاهم». وفي الحضارات للموت فلسفة تختلف من حضارة لأخرى. حضارة الكوند بالهند ترى الناس هناك أن السحر والعفاريت هي السبب في موت الإِنسان، ولذلك فهم يستجيبون بغضب لحدوثه، فيما ترى حضارة (التاتالا) في مدغشقر أن قوى طبيعية خارجية هي السبب في حدوث الموت، ولهذا يستجيبون له بسلام. ولم يبد على السومريين والأكديين أنهم فكّروا بأن الموتى يحيون إلا الحكّام منهم الذين يعيشون حياة أخرى، ولذلك يدفن معهم مرافقوهم وزوجاتهم وحرسهم وعدتهم. وتعتقد «البوذية» بأن المثل الأسمى الذي يمكن أن يصبو إليه الفرد هو الوصول إلى درجة النرفانا، أي فناء الذات واتصالها بعالم الحقيقة، فيما يُعدُّ المذهب «الزرادشتي» الموت انتقالاً من الحياة الأولى في الدنيا إلى حياة الآخرة، وحرمت الزرادشتية دفن الموتى في الأرض ودعت إلى حياة نشيطة مليئة بالعمل والكفاح. والنظرة إلى الموت وسر الوجود مرتبطة بشكل وثيق بالنظرة إلى الحياة ومغزاها. وسواء أكانت هذه الحياة نقمة أحيانًا فهي امتحان وتجربة وهي معاناة وهي متعة. وكما يقول الأديب الوزير الفرنسي «اندريه مالرو» الذي كان يخاف الموت لا شعوريًا بسبب انتحار والده وفقده لولديه في حادثة سيارة: (إن الحياة لا تساوي شيئًا.. ولكنَّ شيئًا لا يساوي الحياة). ويعيش المثقف صراعًا أزليًّا مع الحياة والموت ربَّما لأنَه أكثر الناس خوفًا منه بسبب مبررات منها نرجسيته العالية قياسًا بغيره من البشر، ذلك أن النرجسي متعلّق بالحياة يخشى الموت ويخافه وترعبه فكرة الموت وهو المرتبط بالكتب والروايات والشعر ومادتها التي لا تخلو من التعرض إلى الموت والتطرَّق له، كما أنه أكثر إنسان انشغالاً بالناس وهمومهم وقضاياهم وأهدافه التي تقترب من المثالية. بينما المتدينون أقل الناس خوفًا من الموت لأنّه ينظر للحياة على أنّها مرحلة قصيرة لا بد أن تنتهي أو سفر ينتهي بالوصول إلى المكان الهدف، حيث المآل والعودة إلى الله. المتدينون وثلة المتصالحين مع الموت قلَّما يهتمون بالأسباب المادِّية للموت التي منها تضاءل الطاقة الوظيفية للجسم البشري وحدوث خلل جوهري في الوظائف الحيوية للجسد المادي. وقد وجدت في رؤيتهم اقتراب من فلسفة اسخيلوس الذي يرى الموت كعلاج من بؤس الحياة في قوله: «شقاء وعناء هي حياة الإنسان وما من وجود للخلاص والسلام، ويقينًا هناك حياة أفضل تحفها البركة والقداسة لكنها حجبت في رحم الغيوم والظلام، وهكذا فإننا نتشبث يائسين بروائع هذا العالم الخداعة لا شيء إلا لأننا لا نعرف حياة أخرى، وما من عين بشرية تخترق ظلال الموت وأوهام الإيمان تضللنا». الخوف من الموت حالة طبيعية لا نملك الخروج منها نهائيًا، لكن نستطيع مراجعة الموقف الديني والفلسفي منه، والنفسي وتفحّص موقف العلماء منه كالعلامة الفيلسوف ابن مسكويه وهو يختط علاجًا للخوف من الموت قائلاً: «لما كان أعظم ما يخلق الإنسان من الخوف هو الخوف من الموت وكان هذا الخوف عامًا وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف وجب أن أقول: إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة، أولاً يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنّه يظن أنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقي بعد، كان هو موجودًا أو ليس هو موجود كما يظنه من جهل بقاء النَّفس وكيفية معادها، أو لأنّه يظن أن للموت ألمًا عظيمًا غير ألم الأمراض التي ربَّما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، أو لأنّه يعتقد أن عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنّه متحير لا يدري إلى أي شيء يقدم الموت، أو لأنّه يأسف على ما يخلفه من المال والقينات، وهذه كلّها ظنون باطلة لا حقيقة لها».. «إن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النَّفس استعمال آلاتها وهي الأعضاء التي مجموعها يسمي بدنًا، فإن النَّفس جوهر غير جسماني وليس عرضًا وأنها غير فاسدة.. وأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل استحالة ولا تغير وإنما يقبل كمالاته وتمام صورته، فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي».
مشاركة :