جميل مطرحقاً إنها للحظة تحول مهمة في الولايات المتحدة ودورها في العالم. دولة عظمى بمسؤوليات ضخمة في مرحلة تحولات دولية كبرى يتولى الحكم فيها رئيس من دون خبرة سياسية في الحكم، أو المعارضة، رئيس بشخصية مثيرة للجدل، يصعب التنبؤ بمواقفه، وتصرفاته، ويتمتع بقدرة فائقة على الغضب والرد الانفعالي، ومتناقض السلوك، ومحتقر للنخبة السياسية والأكاديمية. هذا الرئيس جاء إلى الحكم محمولاً على بساط من اختلاف في الرؤى، وفقدان الثقة بينه وبين الحزب الجمهوري. الحزب الذي كان يفترض أن يرشحه ويمول حملته الانتخابية ويحشد له، وعندما يفوز الرئيس في الانتخابات فهذا هو الحزب الذي سوف يتعاون معه ويشرع له.رئيس جديد في نظام سياسي منهك. نظام استنفد جانباً كبيراً من طاقته وموارد البلاد في تدخلات خارجية لم تحقق له ما يقابلها من أمن لأمريكا، أو تجديد لأفكاره ومؤسساته. نظام خرج منتصراً في حرب عالمية كلفته الكثير، ولكن عاد النصر عليه بفوائد ثمينة سرعان ما انطلق يبددها في حرب بكوريا، ثم أخرى في فيتنام، وثالثة في أفغانستان، ورابعة في العراق، ومنها جميعاً خرج خاسراً. كانت أمريكا العنصر الأهم الذي ساعد على تطوير أهم حركات وأفكار التطرف، وتجذيرها في مجتمعاتها لتحمي مؤخرته من صحوات غير محسوبة للحركات القومية المناهضة للنفوذ الأمريكي. رئيس بشخصية انفعالية. ونظام سياسي أنهكته مغامرات القوة والتدخلات الخارجية، وفضائح حكامه، وبخاصة فضائح الرئيسين ريتشارد نيكسون، وبيل كلينتون. أضف حقيقة، لعلها الأهم والأخطر، وهي انحسار الحلم الأمريكي. تابعنا باهتمام على امتداد العشرين عاماً الأخيرة مسيرة تباطؤ الاقتصاد الأمريكي، وكانت حقاً مسيرة عنيدة. لا جدال في أن النسيج الاجتماعي الأمريكي في حالة سيئة. كنا على دراية بما وصل إليه سوء الحال، حتى جاء دونالد ترامب ليكشف بكل جلاء ممكن حقيقة أن الحال الاجتماعية أسوأ مما كنا نظن أننا على دراية بها. وصلت فجوة الدخول مثلاً إلى أقصى درجة اتساع في تاريخ المجتمع الأمريكي. كذلك تدنت إلى مستويات جديدة مختلف مصادر القوى الناعمة. تدهورت سمعة التعليم العالي وحالة الكفاءة الإدارية، وضعفت البنية التحتية للاتصالات والمواصلات، وبخاصة الطرق والجسور. لا يجادل أحد، وترامب في المقدمة، حول تحميل النظام السياسي القائم مسؤولية هذا التدهور. بل ويتحمل أيضاً مسؤولية تراجع الثقة العامة بالحكومة الأمريكية ممثلة في الكونغرس والرئاسة وأجهزة الإدارة. يبدو لي أن انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط مسألة منتهية، وأن النقاش حول فرص واحتمالات العودة غير مجدٍ. لم يكن الانسحاب قرار ترامب، بل قرار باراك أوباما، وبمعنى آخر، كان القرار من تفكير وتخطيط المؤسسة العسكرية، تدعمها المؤسسة الاستخباراتية. الانسحاب من الشرق الأوسط يجب أن ينظر إليه من زاويتين، زاوية الانسحاب العام من التزامات عسكرية خارجية لأسباب ليس أقلها شأناً الأوضاع المتردية للنظام الأمريكي، كما أسلفت في السطور السابقة. الزاوية الأخرى تتعلق بالشرق الأوسط لذاته، وأقصد به شبكة النزاعات المعقدة، والغيوم الكثيفة التي تملأ أجواء العواصم العربية كافة، وأخيراً العلاقة مع الاتحاد الروسي، وهي علاقة أخذت أشكالاً غير مألوفة في عهد باراك أوباما، واستمرت في عهد دونالد ترامب. المؤكد أن عهد ترامب سوف يتعرض لارتباكات عدة، من أهمها السياسات المتعلقة بالإسلام والمسلمين، فجماعة ترامب تضم أشخاصاً كارهين للإسلام كدين، وبعضهم يحمل عداء عنصرياً للمسلمين، هؤلاء تدربوا في فصول المحافظين الجدد، وتفوقوا عليهم في كره المسلمين، ووجدوا ضالتهم في شخص ترامب. وليس سراً أن دولاً عدة لم تعد تثق باستمرار اعتمادها على أمريكا. المدهش أنه رغم الخطابات التطمينية التي ألقاها مبعوثو ترامب في مؤتمر ميونيخ للأمن، خرج المؤتمرون بانطباع يقضي بضرورة التفكير في بدائل لأمريكا في الأجل القصير لقيادة دفاعات أوروبا وآسيا والخليج، في وجوه روسيا، والصين، وإيران، على التوالي. وضع مركز بريطاني مشهود له بالموضوعية العلمية الممكنة تقريراً مطولاً عن دور أمريكا الدولي في عهد ترامب، خرجت من قراءته بخلاصات أهمها ثلاث. انتهت الاستثنائية الأمريكية التي شهدت ولادة الحلم الأمريكي، وكانت الأساس الذي قامت عليه الإمبريالية الأمريكية على امتداد قرن ونصف القرن. انتهى دور أمريكا كنموذج يحتذى في بناء الديمقراطية، واحترام الحريات، والتمسك بروح التسامح، ودعم مبادئ التعددية، وتعايش الأعراق، والديانات، والأجناس تحت سقف أمة واحدة. انتهى الشعور التلقائي لدى بعض الدول الحليفة لأمريكا بالاطمئنان إلى أمريكا الحامية والقائد. لم أقرأ أن دولة عظمى تدهور حالها، وانكمش نفوذها، وتهتك نسيجها الاجتماعي، وتفسخت وحدة قيادتها السياسية والإدارية، ثم عادت قوة عظمى. التحدي أكبر وأخطر مما كنا نعتقد. opinion@shorouknews.com
مشاركة :