يسرد العم محمد عيد المسبي من أهالي قرية مسب من قبيلة بني عبدالله ذكرياته، ويسافر بنا إلى زمان ومكان دون أن يعكر الحديث بكلمة نابية، فهذا الرجل التسعيني متصالح مع ذاته ومكتظ بالذكريات الأنيقة، متجانس مع تحولات المكان ومبتهج بالإنسان، وبرغم عقود من التجارب والفقد والمواجع والكفاح إلا أن الذاكرة لا تزال صامدة وغير قابلة للمصادرة بحكم المراجعة اليومية مع أولاده وأحفاده للذكريات، يتقبل الحياة بروح مضاءة بيقين القضاء والقدر، سعى في مناكب الأرض طلبا للرزق تارة يوافيه وأخرى يشيح عنه إلا أنه لم يكن يحزن على ما فات ولا يفاخر بما أوتي فكل شيء بقسمة ونصيب كما يردد، يتحلق حوله الأحفاد فيشدهم بالسر إلى وعورة الجغرافيا وفخامة التاريخ دون أن تربكهم التضاريس، أبوعبدالعزيز شخصية اجتماعية حاضرة في ذاكرة المنصفين من الأعيان والشباب وإن هادن الصمت وهو على مشارف التسعين وتواطأ مع حركة محدودة لا تمكنه برؤية والاستماع لكل من عرف من الأحباب والأصحاب والأصدقاء، وللشعر في يومياته نصيب فهو مع كل زائر من قرية ما تسعفه الذاكرة المتخمة بالحكايات والحنين بأبيات من عرضة حضرها في زمن قديم وكان معي المصور الزميل رائد الغامدي فسألني ممن هو، فأجبته من بشير فرتل مقاطع من نص فلكلوري منه «أنحن أولاد بشرى حبنا الله وسمانا اسم هيل، اكتسبنا المدائح يوم بيرق جمل في وردة أمره، وإن دعانا ابن شايق تجمح الجن من جماحنا»، وأكد أن هذه القصيدة قال جد رائد الشاعر أحمد القحطاني، اندلع مستودع الموروث وحكى لنا هزيعا من معاناة ما قبل دولة الوحدة والتوحيد وعيشه ومعايشته التحولات وما وصلنا إليه من نعم الأمن وسعة العيش والصحة، ويؤكد أبوعبدالعزيز أن ضيق الحال وقلة ذات اليد في زمن قديم كان يقابلها سعة في صدور الناس وانشراح خواطرهم لبعضهم وتواصلهم واعتنائهم بالحرث والزرع والرعي وتغليب الحكمة سوى من بعض الحمقى الذين كانت تعزرهم القبيلة في الأسواق، لافتا إلى أن جيله توارث ثقافة العمل وتقبيح البطالة ولذا كانت جميع الأسر منتجة وعمل في شبابه جمالا من الباحة إلى الطائف يسافر لقضاء حاجة ويعود، ويضيف: كانت أوضاعنا مؤسفة قبل ثمانية عقود، جوع وخوف ومرض، كنا في سفر وأعددت لرفاقي الخمسة خبزة في الجمر وفجأة ظهر علينا رجل بدت عليه ملامح الغلظة وصببنا له القهوة وأكل من تمرنا فتناول عظمة من الأرض واقتلع خبزتنا وغادرنا وعيونه تنز شرا وشررا ولم نستطع أن نتفوه بكلمة ونحن ستة رجال. وعن مناسبات الأفراح يقول: كانت مقتصدة جدا ويروي قصص السماوة بين أبناء بعض الأسر والمشايخ وما يصاحبها من احتفالات تستمر أياما وترتبط بأوقات فراغ لا شاغل يشغل الناس عن حضورها والمشاركة فيها، ولا ينسى يوم أهداه الملك سعود -رحمه الله- عند زيارته للباحة في السبعينيات (200 ريال عربي) وكان وقتها الخروف بعشرة ريالات والمهر لزوجته الأولى 30 ريالا عربيا فقط، وعن أطرف القصص أنهم كانوا قبل أداء صلاة الاستسقاء يصطحبون معهم بقرة يطوفون بها القرية ثم يصلون ويذبحونها ويقتسمون لحمها ويهطل المطر بغزارة ويتذكر حين سحب السيل بقوة اندفاعه رأس البقرة وقضوا وقتا في مطاردته حتى أدركوه أسفل الوادي. ويختتم حديثه بأن حياة الناس اليوم مرتاحة إلا أنهم لا ينعمون براحة البال كون صدورهم ضيقة، غادرناه وغيوم مشاعره حبلى بما لم يفصح كونه يطل علينا من نافذة منزل تضفي إليه حركة محمد عيد به معاني البهجة والحياة والبركة.
مشاركة :