"حياة ثانية" نقد صوفي لأبنية ثقافة الثورة بقلم: محمد حياوي

  • 3/4/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الناقد التونسي الهادي إسماعلي في ما أسماه تفكيك أبنية ثقافة الثورة، ويقدم قراءات في الواقع الثقافي التونسي ما بعد الثورة وما تبعها من تغيرات وتحديات واتصل بها من قضايا، وكل هذا بلغة شعرية قلما نجدها في كتب النقد التي عُرفت عنها صرامة اللغة وجديتها التي تُخضع النصوص للمساطر والنظريات. ثقافة المشايخ الكتابة النقدية لدى الهادي إسماعلي كتابة اشتقاقية تستنبط الصور من روح الموضوعات الخاضعة للتشريح والتفسير والتأويل، على الرغم من تنوع القضايا المطروحة في الكتاب، الصادر عن المغاربية لطباعة وإشهار الكتب ـ تونس 2016، التي تتراوح بين الرصد النقدي التحليلي لما أسماه بواكير البديل الثقافي المتمثل في أدب الشباب، وتأصيل الكيان بواسطة النصوص الشعرية ومسالك الكتابة وتهرّب الكتّاب من أسمائهم ورحيل بعضهم. يتصدر الكتاب فصل عما أسماه الناقد “الكتّاب الثوار” أو القطاع الهامشي في الشعر في بواكير الألفية الثالثة، التي شهدت ثورة التقنيات الرقمية والتكنولوجية وحجم تأثيرها على القيم السائدة أو المكرسة، وتبديدها للمفاهيم التي كانت بمثابة المسلّمات، وحجم الدور الذي لعبته تلك المتغيرات في تأطير نسق ثقافي مختلف يمثل مرحلة ثقافية جديدة ارتبطت بالدرجة الأولى بالمبدعين الشباب من الأجيال الجديدة الأقرب إلى روحية الثورة والتمرد على القيم السائدة، سواء كانت تلك القيم مجتمعية أو ثقافية مكرسة. وعلى الرغم من التوجس الذي أبداه الكثير من المثقفين الكلاسيكيين من أبناء الأجيال السابقة وعدم تقبلهم لفكرة التمرد المنفلت الذي اتسم به المثقفون الجدد، يقول الهادي اسماعلي في هذا الصدد “إنَّنا محكومون ببنية لاهوتية تهوى ثقافة المشايخ والأولياء، وترمي الشباب اليافعين بالضلال والزلل والزيغ عن الصراط المستقيم”. لكن هذا الرفض للتجارب الشابّة لا يقتصر على شيوخ الثقافة من الأجيال السابقة وحسب، بل يتعداه إلى ما أسماه بالمؤسسة السياسية المكرسة والمعلبة التي تتوجس بالفطرة من أيّ تجارب منفلتة. إن انحياز الكتاب إلى الأجيال المثقفة الجديدة في تونس هو بمثابة الفكرة المحورية التي بنى عليها إسماعلي تأسيساته التنظيرية كلها، ونتيجة لإحساسه بخطورة فكرة الانحياز وتطرفها إن شئت، راح يسوق الأمثلة تلو الأمثلة على أساليب القمع الثقافي الذي تعرضت له شريحة عريضة من المثقفين التونسيين في العشرية الأولى من الألفية الثالثة، الأمر الذي جعل منهم محركاً محورياً لروح الثورة التي أشعلوها على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تتسع لتشمل الشارع التونسي كله، “إنَّنا محكومون ببنية اجتماعية تصنف الشباب قاصراً مستعيناً بغيره، ينبغي على الناضج الراشد توجيهه وتأطيره وليس على الشباب سوى تقديم فروض الطاعة والولاء”.قراءات في الواقع الثقافي التونسي ما بعد الثورة في فصل عن ظاهرة تخفي الكتّاب والمبدعين الشباب والتهرب من أسمائهم الصريحة بعنوان “رسائل هرمس المهرّبة” يتصدى الكاتب لقضية لا تقل أهمية عن سابقتها فيما يتعلّق بحذر المبدعين الشباب في مواجهتهم مع الواقع السلطوي والسياسي وابتكارهم الأساليب المختلفة لإيصال أصواتهم من دون أن يؤدي ذلك إلى صدامهم المباشر مع السلطة الغاشمة، بعد أن اكتسب هؤلاء مزية التخفي، يقول في هذا الصدد “ليس بخفي نزوع عدد غير قليل من الكتّاب إلى الهرب من أسمائهم وحمل دوال جديدة بمثابة الأقنعة يتوارون خلف أستارها خشية التسلط”، ويوغل الكاتب هنا في سبر أغوار ودلالات وخلفيات هذا السلوك وصولاً إلى حالات كثيرة ومعروفة في تاريخ الأدب العربي القديم والمعاصر. بالعودة إلى محور الكتاب الرئيس الخاص برصد حركة التأليف والكتابة ما بعد الثورة وتمظهراتها، يستعرض الكاتب باستفاضة واجهة النشر وحركته ومحاولات الكتّاب التونسيين الاستفادة من الفعل الثوري وما تمخض عنه من نتائج ومتغيرات. محاولة جادة من جهة أخرى يرى الناقد أن غياب فكرة التسامح وثقافة تقبل الآخر في أوساط المثقفين العرب عموماً وتطرف مواقف البعض يعودان في الواقع إلى سلوكيات البداوة البدائية التي لم يستطع المثقف العربي التخلص منها وتهذيب النفس من تأثيراتها المدمرة، ليس على الآخر وحسب بل حتّى على المثقف الحامل فايروس الثأر والسلوكيات البدائية نفسه، “لست مثقفاً إن لم تكتب عن الثورة”، تلك العبارة التي يوردها الكاتب للتدليل على مدى اتساع الشق النفسي والسلوكي بين أوساط المثقفين، هي نفسها التي ترددت ولا تزال تتردد في بلدان عربية أخرى شهدت متغيرات سياسية من نوع ما وإن بصياغات أخرى مماثلة، ففي العراق على سبيل المثال تتردد اليوم عبارات من نوع “لن أقبلك ما لم تدن صدام حسين” أو “اعتذر عما كتبته زمن النظام السابق”. وتتراجع على الأرجح مستويات الجودة الأدبية والإبداع الحقيقي والعميق في ظل تلك التمزقات والمماحكات المبنية في الأساس على مواقف سطحية وحماسية غير واقعية. وعلى صعيد تراجع المستوى وانتشار الفوضى يقول الكاتب ما معناه أن الحياة الثقافية والأدبية التونسية لم تشهد تراجعاً في أدبية النصوص مثل ما شهدته ما بعد الثورة، على الرغم من أن هذا التشخيص ليس مطلقاً على ما يبدو. ويتصدى القسم الثاني من الكتاب الذي صنفه الكاتب تحت عنوان “أفنان” لإشكالية الفن بين المقدّس والدنيوي، مسلطاً الضوء على مستقبل الفنون بعد صعود حركة النهضة ذات التوجهات الإسلامية في تونس ما بعد الثورة، وحلل إسماعلي بعض المواقف الاستباقية المتطرفة على ما يبدو حسب ما يرصده الكاتب، الذي ضرب مثلاً فيلم “لا ربي لا سيدي”، للمخرجة نادية الفاني، الذي عُد استفزازياً وجريئاً في طرحه لقضايا مسكوت عنها وأثار الكثير من ردود الأفعال. وتحت عنوان “الفنّ وأيديولوجيا المصالح الخاصّة” يرصد إسماعلي مواقف الكثير من المثقفين التونسيين الذين اتخذوا موقفاً معادياً للثورة والثوار والدوافع التي تكمن وراء مثل تلك المواقف والنتائج التي أدت إليها وحجم الإحباط في نفوس الثوار، بعد أن فوتوا، من وجهة نظر الكاتب، فرصة تاريخية لتصاهر القوى الثقافية مع القوى الشعبية من أجل صناعة أفق التحول المنشود. ويختتم الكاتب دراسته التحليلية أو الاستقرائية في فصل أسماه “حياة ثانية” موائماً بين لعبة “حياة ثانية” الإلكترونية الشهيرة والواقع الافتراضي المتمثل في شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر، ومدى تأثيرهما (الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي) على السلوكيات العامة والمنتج الفكري، بالإضافة إلى القيم والرموز الناتجة عن تلك التقنيات التي تحاول أن تتخيل لنا المستقبل الغامض والمخيف والمجرد من المشاعر الإنسانية حين يتحول البشر فيه إلى مجرد أرقام أو كيانات خاضعة لشروط اللعبة الإلكترونية بعماء تام. إن كتاب “حياة ثانية” محاولة جادة وعميقة ومتقدمة إلى حد ما لقراءة الواقع الثقافي العربي عموماً من خلال قراءة الواقع الثقافي التونسي وتمظهرات الثقافة بعامة والإبداع بخاصة في أعقاب المتغيرات الثورية.

مشاركة :