ممارسة اللغة كأداة تواصل اجتماعي تخضع لمستويات متفاوتة تحدّدها سلوكيات الأفراد وطبيعة تربيتهم وتعليمهم وذكائهم، لكنّها في الأدب والفن تخضع لاشتراطات أعقد من ذلك بكثير.العرب محمد حياوي [نُشر في 2017/08/20، العدد: 10728، ص(11)] تلعب اللغة دوراً محورياً في الحياة المعاصرة لجهة تنامي الترابط الاجتماعي والفعاليات الاقتصادية اليومية، ناهيك عن دورها في دمج الفرد في المجتمعات، وبالتالي فهي أداة اجتماعية محوريّة قبل أن تكون أداة تعبيرية للفنون والآداب، أي كأداة تصوغ الواقع اليومي وتفهمه في آن واحد، وهي كائن حيّ ينمو ويُثرى ويتسع ليعيد تصوير ماضينا وعدم الاكتفاء بإعادة روايته. وحسب ألفريد دوبلن، فإنّ اللغة ترغم الواقع على إظهار نفسه، تنقّب في أعماقه وتعرض المواقف الجوهرية الكبيرة والصغيرة من الوضع البشري. ونظراً لكون أغلب وظائفنا وحاجاتنا البشريّة فرديّة على الأرجح، فإنّنا لا نحتاج الآخرين كي نتنفس أو نأكل أو نمشي أو ننام، لكنَّنا نحتاج إليهم في التحدّث، وبالتالي فإن اللغة تشترط وجود طرفين بشريين على الأقل لتتشكّل، وهي صيغة من الارتباط بالآخرين، ومن دونهم لا وجود للغة أصلاً. ومن جهة أخرى، فإنّ الأمر نفسه ينطبق على اللغة المكتوبة كنصوص، إبداعية كانت أم غيرها، ومن دون فعل القراءة لا يكتمل شرط اللغة. إن العلاقة التي تجمع الفرد بالمجتمع عن طريق ممارسة اللغة، تعادلها في العملية الإبداعية العلاقة بين الكاتب والقارئ، وطالما كان النص محفوظاً بين دفّتي الكتاب من دون أن يُقرأ لا يعدو عن كونه جمادا فيزيائيا متكوّنا من مادّة الورق والحبر، لكن ما أن يُفتح الكتاب ويُقرأ يتحوّل هذا الجماد إلى كائن حيّ يتفاعل في مخيّلة القارئ ويوصل أفكار الكاتب ويتواصل معه، في ممارسة اجتماعية وصيغة تكافلية. إن فعل القراءة بحد ذاته نوع من تشكل الفعل اللغوي، بغض النظر عن مستوى وعي القارئ، وسواء كانت قراءته حرفيّة للنص أم عميقة تغور إلى ما خلف المعنى المباشر، وهو الأمر الذي ينقلنا إلى المستوى الثاني من عملية ممارسة اللغة، ألا وهو سلوكية الأفراد في تعاطيهم الفعل اللغوي-النصّي هنا، وهي سلوكيات تشبه تماماً سلوكيات الأفراد المتفاوتة في تعاملهم مع الوظائف الأخرى كالإفراط في ممارسة الجنس، أو السهر ومقارعة النوم كفعل أو أداة فيزيولوجية ضرورية لبناء الجسم، وحتى بالنسبة إلى هؤلاء المولعين بالقراءة الحرفية للنصّ الأدبي، وإخلاصهم للتراتبية أو النمطية التي تربوا عليها تعد قراءتهم تلك ممارسة لفعل التواصل بواسطة أداة اللغة. إلاّ أنّهم يمارسون نوعاً من الاستهانة بأداة اللغة كوسيلة استنباط وتورية هذه المرة، وهو ما وصفه الكاتب البلجيكي جان كلود بولونيو بقوله “إنّ القراءة الحرفيّة للنصّ الأدبي هي شكل من أشكال التطرّف”، وهو ما يوصلنا إلى المستوى الثالث من الممارسة اللغويّة، الخاص بالتراتبية، أو افتراض المنهجية أو النمطية في الكتابة، إذ يدّعي الكثير من الكتّاب منهجية من نوع ما في عملهم، وهو في المجمل أمر ليس معيباً بحد ذاته، لكنه قد يوقعهم في النمطية التي تبعث على الملل نتيجة لتكرار النمط، وبالعودة إلى دوبلن دائماً، يقول بهذا الصدد، ليس للمنهج مكانٌ في الفن، الحماقة أفضل، وينصح الكاتب باعتناق نزعته المستقبلية بشجاعة وحسب. وبالنظر إلى الأمر من زاوية التراث فحتى النصوص أو الأصوات المنّمطة المرتبّة بعناية فائقة تبعث على الملل إن تكررت، وها هو الجاحظ يقول في “كتاب الحيوان” ما نصّه “فإنّي رأيتُ الأسماع تملُّ الأصوات المُطربة والأغاني الحسنة والأوتار الفصيحة، إذا طال ذلك عليها. وما ذلك إلّا في طريق الراحة التي إذا طالت أورثت الغفلة”. وفي المحصلة فإنّ ممارسة اللغة كأداة تواصل اجتماعي تخضع لمستويات متفاوتة تحدّدها سلوكيات الأفراد وطبيعة تربيتهم وتعليمهم وذكائهم، لكنّها في الأدب والفن تخضع لاشتراطات أعقد من ذلك بكثير. كاتب من العراقمحمد حياوي
مشاركة :