على رغم تواتر الاجتماعات والمفاوضات، في موسكو وآستانة وجنيف، بين أهم الأطراف المعنية بالصراع السوري، فليس من لحظة يبدو فيها الحل السياسي بعيد المنال أكثر من اللحظة الراهنة، بما هو حل يفكك آليات السيطرة الأمنية ويزيل مناخ العنف والقهر الذي خنق لأمد طويل حقوق الإنسان وبذور الحياة الديموقراطية في البلاد. فيما مضى، وإذا كان بعض التوافق بين السياستين الأميركية والروسية قد أسس لخيار الحل السياسي عبر بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254، فالجديد هو تعزز السلبية الأميركية ووضوح المسافات الخلافية بين الأطراف الثلاثة الراعية اليوم للعملية التفاوضية، مصالح موسكو، والمطامع الإيرانية، وبينهما الحسابات التركية ومراميها، الأمر الذي يكشف ضيق فرصة الإقلاع الجدي بالمعالجة السياسية. وفي ما مضى، إذا كان ثمة شك حول جدية واشنطن وموسكو في دعم مسار التفاوض وإرغام الفرقاء السوريين على طي صفحة الصراع الدموي، فالشك يبدو اليوم أكبر تجاه امتلاك موسكو وأنقرة وطهران دوافع حافزة وإرادة مشتركة لإخراج الحل السياسي من ركوده، بخاصة أن التباينات بينهم تتنامى مع كل خطوة تخطوها المفاوضات، ويعمق تلك التباينات لجوء دول غربية لتغذيتها في سياق التنازع والمحاصصة على المستقبل السوري، ربطاً بوصول الحرب ضد تنظيم داعش إلى مراحلها النهائية، فأنى لطهران أن تتنازل وتدعم خطة سلام لا تكرس مطامعها في سورية والمشرق العربي، بخاصة أنها تزداد توجساً من عودة صراعها المفتوح مع واشنطن بعد أن جاهر دونالد ترامب بعدائه لها وسماها بالإرهابي الأول وهدد بنقض الاتفاق النووي معها، والأسوأ ما رشح عن تقدم دور الحرس الثوري ومراكز سلطوية إيرانية دأبت على تصدير الثورة الاسلامية واستثمار البعد المذهبي لمد نفوذها في المنطقة؟ وأنى لتركيا أن تفرط بما حققته من تقدم ونفوذ في سورية، بخاصة أنها تمتلك ورقتي المعارضة المسلحة والغطاء الإسلامي السنّي، ودونهما لا يمكن لمشروع التسوية أن يحقق النجاح والاستقرار؟ والنتيجة أن سورية التي أصبحت مسرحاً للتدخلات الخارجية وميداناً لتضارب المصالح الدولية ولإدارة معارك النفوذ، أصبحت رهينة لتوافق إرادات عالمية وإقليمية باتت تقرر كل شيء، إدامة القتال أو وقفه وإنهائه، ثم حظوظ معالجته سياسياً. «يتوهم من يعتقد بقيام مرحلة انتقالية أو تغيير للنظام»... عبارة كررها غير مسؤول سوري تعقيباً على الورقة التي قدمها ستيفان دي ميستورا متوسلاً في بعض بنودها جدولاً زمنياً للتغيير يغازل قرار مجلس الأمن 2254 ما يشير إلى حجم الهوة التي تفصل موقف أهل الحكم والخطة الأممية، وإلى حقيقة، أن النظام الذي لم يقدم أي تنازل سياسي في سنوات فشل خياره الحربي، لن يتنازل اليوم بعد نجاحه في استرداد مناطق مهمة، كمدينة حلب شمالاً، ليغدو بداهة، أكثر تصلباً لرفض الحوار وأقل استعداداً للتفاوض، فكيف الحال وهو خير من يدرك أن إطلاق العملية السياسية سيفضي إلى إعادة بناء المواقف والاصطفافات بصورة لا ترضيه وتمنعه من التوغل أكثر في خياره الحربي، وتفضح عجزه عن إعادة إنتاج بعض الشرعية والاستقرار بعد هذا الفتك والدمار وبعد الشروخ العميقة التي أحدثها في المجتمع! وكيف الحال مع تبلور مراكز أمنية وعسكرية أفرزتها الحرب المديدة، ليس لها مصلحة في أية تهدئة أو استقرار، تستمد سطوتها وامتيازاتها من استمرار الفوضى، وقادرة بما تمتلكه من إمكانات على إفشال أية عملية سياسية بالتناغم مع جماعات من الطينة ذاتها تحسب على المعارضة المسلحة! وكيف الحال مع تنامي خشية المرتكبين السلطويين من أن يرافق الحل السياسي جردة حساب وعقاب على ما اقترفته أياديهم، ربطاً بما كشفته المعلومات والوثائق مؤخراً عن فظاعة ممارساتهم! ولا يغير هذه الحقائق بل يؤكدها استجابة النظام الخبير بتمييع المفاوضات وإغراقها بالتفاصيل، لإملاءات موسكو وقبوله شكلاً مناقشة الانتقال السياسي، ما دام يستثمر ذلك لتسعير سخريته من المعارضة والإمعان في تشويهها، ولتغطية الضربات الكثيفة في مناطق الهدن القريبة من العاصمة لإرغام أهلها على الاستسلام التام، كما يحصل اليوم في حي القابون الدمشقي. صحيح أن أهم أطراف المعارضة السورية تنادي بالحل السياسي، وصحيح أنها غير قادرة على القبول بتسوية لا تلبي مطالب الناس في الحرية والكرامة، لكن ذلك لن يثمر ما لم ترتق بمسؤوليتها الوطنية تجاه محنة السوريين ومعاناتهم الإنسانية، وتتمثل دروس الثورة، وأوضحها نشر ثقافة تدين العنف والإكراه وتنبذ التباهي بعقلية المكاسرة والغلبة، وأهمها إطلاق المبادرات لتثقيل الوجه السياسي والمدني لقوى التغيير، ما يبدد مخاوف المجتمع الدولي ويشجعه على دعمها كبديل للنظام ويمنحها الثقة لقيادة المرحلة الانتقالية. وبينما يتحدث الجميع عن أخطار استمرار الصراع ويروجون للخيار السياسي، فإن فرصة الحل تبقى ضعيفة ما دامت الأرضية المشتركة التي يمكن البناء عليها ضعيفة، وما دام بعض أطرافها لا يدرك طبيعة الخيارات المتوفرة أمامه ويرفض تقديم أي تنازل، وما دام رعاتها يستهترون بالمخاوف الحقيقية للسوريين، ويفتقدون تصوراً واضحاً حول جذور الصراع والأدوات الناجعة للضغط على المتحاربين وإجبارهم على ترك ميدان العنف ومنطق القهر والتدمير والإفناء. والحال هذه، يبدو أن الصراع السوري لن يشهد في وقت قريب حلاً سياسياً جراء صعوبة التوفيق بين مصالح متعارضة تمثلها قوى إقليمية ودولية وفئات من النظام والمعارضة، زادها تعارضاً ما كرسه طول أمد الصراع والعنف المفرط من شروخ وانقسامات، وإذا لم يحض الخراب المعمم وأنين الضحايا والمعذبين، تبلور قوى ورؤى سياسية تتطلع، بعيداً من أوهام الانتصارات والحسم، نحو التشارك في بناء مستقبل جديد تحدوه دولة ديموقراطية ومجتمع مواطنة لا مكان فيه للتمييز أو لحقد وانتقام، فإن البديل هو استمرار الحرب الإقليمية والدولية على أرضنا، وربما حتى آخر قطرة دم سورية. * كاتب سوري
مشاركة :