تتربع رواية «زمن النساء» للكاتبة الروسية يلينا تشيغوفا على عرش الأدب الروائي الواقعي الروسي في زمن خروج البروليتاريا عن صمتها وصعودها إلى مسرح الفعل التاريخي. الرواية التي صدرت أخيراً ضمن «سلسلة الجوائز»/ الهيئة المصرية العامة للكتاب، بترجمة محمد نصر الدين الجبالي تدور حوداثها في مدينة بطرسبرغ خلال أربعينات القرن العشرين وصراع الاتحاد السوفياتي السابق مع ألمانيا النازية والتي انتهت بانتصار ساحق للسوفيات. وأي رواية؛ مهما اختلفنا على قيمتها؛ تصور الفعل البشري الذي يقع في زمان ومكان محددين. وحتى نقتنع بإمكانية وقوع هذا الفعل البشري ينبغي أن يكون ملائماً لطبيعة البشر، قابلاً لأن يقع في بيئته الزمانية والمكانية. ويصبح الأمر أكثر تعقيداً إذا كنا بصدد رواية تاريخية، فالكاتب لا يفترض أن يقوم فقط بعمل المؤرخ الملم بالتاريخ السياسي والحضري للفترة الزمنية التي يكتب عنها فقط، فهو مطالب كذلك بأن يكون قادراً على تخيل الطبيعة العقلية والنفسية للبشر الذين عاشوا هذه المرحلة التاريخية. وبتعبير آخر، فإن المؤرخ إذا كان مسؤولاً عن تسجيل الحوادث التاريخية من الخارج، فإن الروائي مسؤول عن تقديم الحياة الداخلية للبشر الذين عاشوا في هذه الحقبة. تتناول الرواية حياة ثلاث سيدات عجائز؛ هن: «جيليكريا» التي لم تلد أطفالاً، وفرَ زوجها من الثورة ورفض المشاركة فيها ولم يكونا قد عقدا قرانهما رسمياً بعد. «يفيدوكيا»؛ التي تجهل القراءة والكتابة ولكن لديها خبرة كبيرة بالحياة، تجعلها تمتلك حكمة الشيوخ. «أريادنا»؛ التي قتل شقيقها في الحرب، وأحباؤها الآن تحت التراب، قلبها مفعم بالحياة على رغم ظهرها المحني وعظامها الشائخة، وتتمنى أن تعيش في ظل الشيوعية الشطر المتبقي من حياتها. يعشن في شقة ويستضيفن «أنطونينا»؛ بطلة الرواية؛ والتي لم تستطع التأقلم مع المعيشة في مدينة كبيرة، بحكم نشأتها في قرية. عندما شدَّت الرحال إلى بطرسبرغ، غرَّر شاب بها وحملت منه، واختفى نهائياً من حياتها. حاولت إجهاض نفسها بشتى السبل، ولكن من دون جدوى، فأنجبت صوفيوشكا. الأخيرة ولدت بكماء لكنها تسمع وتفهم كل شيء وبارعة في الرسم والكتابة. ولكن أنطونيا سرعان ما تموت بعد صراع طويل مع مرض السرطان، فبات على النساء العجائز رعاية ابنتها. اعتبرنها حفيدتن وتفانين في خدمتها. قبل ذلك، نشأت قصة حب بين أنطونيا وزميل لها في المصنع يدعى نيقولاي روتشينكوف. هو كان كريماً معها إلى أقصى درجة، فتنازل لها عن دوره في الحصول على تلفزيون يمنحه المصنع للعاملين بالتقسيط؛ لتسلية ابنتها في الشقة. وعندما أجرت أنطونيا الفحوص الطبية تمهيداً للزواج من زميلها، اكتشفت إصابتها بسرطان الرحم، ما استدعى استئصال أجزاء من جسدها، ومع ذلك نجحت الجدات الثلاث في إقناع نيقولاي باتمام الزواج حتى يتمكن من الحصول على شقة من الجمعية التعاونية للسكن والإيجارات. كان نبيلاً؛ فوافق على اتمام الزواج حتى تتربى ابنة زوجته في كنفه بعد رحيل أنطونيا. وبعد رحيل الأم شفيت الابنة من البكم وأتقنت اللغة الفرنسية، وتزوج نيقولاي، لكنه تمسك بأن تعيش في كنفه، إلا أنها كانت تنتقل من مرسم إلى آخر حتى تمكنت من شراء شقة مستقلة، وأصبحت رسامة شهيرة واشترى المتحف الروسي إحدى لوحاتها، وأقبل هواة جمع اللوحات على شراء أعمالها. وهناك شخصية طبيب النساء اليهودي؛ سليمان زاخارافيتش، وهو صديق قديم لأريادنا، ويعد علماً في مجاله إلى جانب دماثة خلقه ونزعته الإنسانية. هو الذي أجرى العملية الجراحية لأنطونيا عقب إصابتها بالسرطان على رغم كبر سنه بعد إحالته على التقاعد. استثمر الطبيب علاقاته بتلاميذه في تذليل معوقات تبني الطفلة صوفيوشكا. كما تبنى موهبة الطفلة في الرسم وساعدها في الالتحاق بالجمعية الفنية التابعة لقصر الطلائع عند جسر أنتيشينيكوف وقد تناوبت الجدات الثلاث الذهاب معها إلى قصر الطلائع لأنه قريب من محل إقامتهن. الزمن لا يمتد طويلاً في الرواية (خلال عام 1941) لتعميق خصوصية البيئة والبشر الذين يعيشون فيها. وتبدو أحداث الرواية وكأنها تمثل امتداداً في المكان وكأن الكاتبة قد ثبتت الزمن لتعمق إحساسنا بالمكان والشخصيات. وتتطرق الكاتبة إلى خسائر الحرب في ضواحي ليننغراد، حيث ألقي بآلاف الشباب حطباً لحرب لا هوادة فيها، فكان موتهم هو الموت الأكبر، هو الموت الحقيقي. كان بين الجنود من يصارع موتين: السرطان والمعركة، وما أن يشفى أحدهم من المرض حتى يقتل في الحرب. كما أبرزت انتهازية التجار خلال فترة الحصار؛ فتقول على لسان «أريادنا»: كان جارنا يعمل في مجال المنتجات الغذائية طوال فترة الحصار، وكان يحصل على الذهب مقابل الطعام كانت المرأة تأتيه تحمل خاتمها أو قرطها في قطعة قماش ممزقة، تفك رباطة القماش أمامه وهي تبكي، فيعطيها نصف قالب خبز، وينتزع منها ما في يدها، وهي تتوسل إليه: رضيعي يموت، سأعطيك آخر ما لديَّ في سبيل أن تمنحني نصف قالب خبز آخر. فيرد غاضباً: كفي عن هذا وإلا فلن أعطيك على الإطلاق، ولا ملجأ لها ولا ملاذ تشكو إليه». وأشارت الكاتبة إلى قصة المرأة التي كانت تعمل في مصنع للخبز، وكانت تخفي العجين في صدرها وتسير. كان الحراس في المصنع يفتشونها بتحسس جنبيها من دون الصدر بالطبع، حيث لم يكونوا يتوقعون ذلك. وهكذا تمكنت تلك المرأة من إنقاذ طفليها من الموت جوعاً. وستظل أنطونيا سيزيفاً حقيقياً، تحمل هموم طبقة البروليتاريا العريضة والعنيدة والمنتجة للأفكار والطامحة لتغيير مصيرها. ويحسب للكاتبة حسّ الأزمة الذي حافظت عليه متصاعداً مع تطور المسار الروائي، وإن خففت أحياناً من سطوته بلمسات إنسانية تجتهد في أن تبعث أملاً في النفوس، كما أعادت إلى الرواية ألقها لاستبصار الحياة البشرية حين جعلت منها وسيلة للغوص البارع في أعماق النفوس في محاولة لاستكشاف بعض من تيمات الوجود. ويغلب الطابع الدرامي على الرواية فهي ذات أبعاد ثلاثية، حيث تصور دراما الجريمة والاعتراف من ناحية «الحمل السِفاح»، وتصور العواطف الإنسانية من ناحية أخرى: «لا تفقدي عقلك. هي طفلة واحدة، وسوف نربيها لك حتى تكبر إن شاء الله، لا نعدك بأكثر من ذلك فعمرنا لن يمهلنا». كما تصور الماضي الذي يتحكم في توجيه الحاضر؛ «الجميع سيصبحن عجائز في ظل الشيوعية».
مشاركة :