في أحدث أفلامه، «حرائق» (الذي حاز جائزة لجنة تحكيم مهرجان القاهرة السينمائي عام 2016، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان روتردام للفيلم العربي 2017، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما)، يذهب بنا محمد عبدالعزيز إلى مصائر نساء عايشن الحرب واكتوين بنار القسوة والعنف والإرث الاجتماعي القاسي والمحيط المدمر للحلم. خمس نساء من عجينة الأرض والروح يذهبن بنا إلى مساحات قصية من الريف إلى المدينة، من سجن القصر العدلي بدمشق إلى سجن الدجاج المزنر بالموت والحاجة والفاقة، من أم (مؤتمن عيسى– ممثلة غير محترفة) أراها جوعها وفاقتها وظروف الحرب وقسوة الحياة أن تزوّج ابنتها (نانسي خوري التي تهرب صوب حلمها وحبها من جنون أصوات الدجاج والزوج القادم من صياحها) من تاجر بيض ودجاج، خيرٌ من تزويجها ابن خالتها الهارب إلى وسط المدينة والساكن مع أهله في كابينة عرض سينما السفراء وسط العاصمة دمشق. من امرأة هاربة من الخوف (رنا ريشة) لملاحقة أخيها لها ليقتلها بتهمة إهانة شرف العائلة بزواجها من غريب، بعد أن سجنت بمساعدة أمها خوفاً عليها من القتل العائلي، والتي تُفاجأ عند خروجها من السجن بسكّين أخيها ينتظرها في الخارج، فتبدأ عملية المطاردة. إلى تلك الصبية الثالثة التي تنتمي إلى أسرة ذات مستوى ثقافي، حيث الأم تعمل مخرجة مسرحية. هذه الصبية (جفرا يونس) مثقفة متطوعة في الهلال الأحمر، تحب رسّاماً شاباً، يعلق في مرسمه الضاج بالألوان صوراً لمؤسّسي الشيوعية واليسار، لكنها حين تخبره بحملها ورغبتها في الحفاظ على الطفل، يرتبك ويطالبها بإسقاط حملها، رافضاً أن ينجب طفلاً يعيش في هذه الظروف الصعبة، ويدمّر الحب بينهما. إلى امرأة تفتش عن طريقة لتهرب بحزامها الناسف من وسط الناس بالقرب من المركز الثقافي الروسي، لتفجّره وسط مجموعة من الإرهابيين على سطح بناية وسط دمشق... إلخ. صاحب»دمشق مع حبي» و «نصف ميلي غرام نيكوتين» و «المهاجران» و «الرابعة بتوقيت الفردوس»، يُقدم في «حرائق» فيلماً جريئاً، وشجاعاً وعميقاً ومخالفاً للسائد السينمائي السوري في بنيته وآلية تعاطيه من الشكل وآليات السرد والصورة السينمائية والبنية الزمانية، والمكان والممثلين وطريقة تعاطيه مع الأحداث والوقائع، فيلماً مجرباً ومختبراً ومختلفاً وجديداً، وذلك يُحسب له في حقيقة الأمر، فيلما يمكن القول إلى هذا أنه مرتبك إلى حد ما في بنيته الزمنية وفي سرد حكايته، أو لنقل في تعبير شخصياته عن نفسها، عن أزماتها، الشخصية والعامة، ومشكلاتها النفسية والاجتماعية والمجتمعية وتراتبيات آليات القمع المسلطة عليها، مع ثلة من النجوم الشباب، والوجوه الجديدة، وعملاً يمكن وصفه بأنه واحداً من أهم وأجرأ الأفلام السورية التي أُنجزت خلال العشرين سنة الأخيرة على الأقل، لما سبق ذكره طبعاً. أزمان متوازية غير أن «حرائق» يسقط إلى حد ما، وبالرغم من الشحنة العاطفية والوجدانية والإنسانية التي يتركها في مشاهده، في اختبار تتابع حكايات نسائه وربطها في تسلسل زمني متوازي، وفي مستوى واحد من الأهمية والتعبير، (بعضها أخذ مساحة كان بالإمكان تحميلها لقصة أخرى، أو اختصار مشاهد ذات طبيعة توكيدية للحدث)، وكذلك من القدرات الأدائية لحاملي تلك الشخصيات، الذين تألقوا في أماكن من الفيلم، وفي بعضها كان الصراخ والمبالغة هما السمة الغالبة، إذ نشاهد فقراً واضحاً في بعض حكاياته من قبيل المبررات والانتقالات والأحداث واللغة، كما يفتقر بعضها إلى مبررات درامية. وربما قرأ البعض حذفاً ما في المونتاج أو الرقابة (ذكر عبدالعزيز أنه تمّت إعادة المونتاج ما يقارب الخمسين مرة). واقعية الأحداث، مرارتها، قسوتها، راهنيتها... يحاول محمد عبدالعزيز تقديمها سينمائياً بمستويات سردية مختلفة بصرياً وحكائياً، لغة يغلب عليها جمال المشهدية وعناية بالكادرات حتى تلك المتحركة أو التي تتم أحداثها في الشوارع أو الأماكن المغلقة والضيقة، وإلى هذا يعرّفنا الفيلم على دمشق أخرى وريف أخر، يعرّفنا على مكان ارتدناه كثيراً مذ كنا صغاراً نحضر أفلاماً سينمائية، إنه سينما السفراء وسط دمشق، التي يعيد اكتشافها بعد أن لجأ إليها العديد من العائلات المهجّرة من قرى وأماكن دُمّرت وعاث فيها الخراب. مكان يُغري محمد عبدالعزيز سينمائية وبصرياً وذاكرة أيضاً، فمن خلاله يوجّه تحية إلى واحد من أهم صناع السينما السورية، محمد ملص، من خلال مشهدين في الفيلم، وفي هذا المكان المغري، نلمح كذلك ظلال مخرجين عالميين عبروا في ذاكرته السينمائية والبصرية، سلالم ومسرحاً وكراسي فارغة، عالم غني بالألوان والدلالات، كابينة العرض، الأشرطة السينمائية بألوانها وظلالها على الحائط، ملصقات الأفلام المعلقة على الحائط إلى جوار لافتات تحمل شعارات دعائية حزبية ونضالية انتشرت في شوارعنا منذ أكثر من أربعين عاماً. إلى حد ما، يعرّفنا عبدالعزيز على أنفسنا، يخرج الوقائع التي نكاد نعرفها أو شاهدنا بعضها من تلك الأماكن المظلمة في الروح والحياة، إلى العلن إلى نور الشاشة البيضاء وألوانها. زمن واقعي لأماكن مختلفة وإلى جانب ذلك، يقدّم عبدالعزيز حكاياته ببنية سردية تعتمد سير الأحداث في زمن واقعي واحد وأماكن مختلفة، لكنها تلتقي في نهاية المطاف في مكان قريب في دمشق بعدما كان يحدث لها أن تمرّ بجانب بعضها في هذا الشارع أو ذاك، من دون معرفة. البنية الواقعية للحكاية قابلها عبدالعزيز ببنى رمزية ودلالية متشابكة وعالية في مستوياتها الدلالية، كما في الأطفال الذين يأكلون كالجراد، من وعاء على شكل نصف كرة أرضية، ربما كانت وسيلة توضيحية لجغرافيا ما في إحدى المدارس، كابينة سينما السفراء والحنين إلى زمن السينما أكلت الحرب ما تبقى منها من صناعة وبنى وصالات عرض وأفراد وسينمائيين... أو صارخة ومباشرة وربما مكررة، كما في مشهدَي ذبح الإرهابيين الجنود العُزّل ومشهد ذبح الدجاج في المسلخ والتكبير الحاصل في كلا الحالتين، الإرهابي في الزي واللغة، سيارات الأمم المتحدة الباحثة عن الكيماوي أو العابرة بجوار المرأة المنكوبة لهروب ابنتها من البيت لحظة انشغالها معهم في المدجنة، مشهد التفجيرات الختامية في دمشق... ربما سيعيب البعض على سيناريو محمد عبدالعزيز (الذي يصنفه كُثُر مُعارضاً، شخصياً وسينمائياً) ذهابه نحو تصوّر العنف الآتي من واقع قاسٍ وظروف أشد قسوة أو جماعات تكفيرية إرهابية متشددة، أو إرث اجتماعي بالٍ، بنظرة أحادية الاتجاه من دون مغامرة الغوص في الأسباب والعوالم الأخرى المشيّدة لتلك الأحوال (مشهد سوق الفتاة في السجن للتحقيق وتعامل الشرطة معها، قوات الأمم المتحدة القادمة للبحث عن مواد كيماوية وسط مدجنة، ومحاولة تفجير مبنى المركز الثقافي الروسي وسط دمشق... من دون أي مرور أو ذكر للطرف الآخر من هنا أو هناك في هذا الحدث أو ذاك).