"ضوء القمر" يجمع بين جمال الصورة وبراعة الأداء بقلم: أمير العمري

  • 3/10/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

ضوء القمر يجمع بين جمال الصورة وبراعة الأداءهناك شيء ما كامن في الفيلم الأميركي “ضوء القمر” الحاصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم، يغري بالوقوع في تصنيفه كأحد أفلام “المثليين”، أو في أفضل الأحوال كفيلم من أفلام “الأقلية السوداء” في المجتمع الأميركي أو ما أصبح يعرف بـ”الأفارقة الأميركيين”.العرب أمير العمري [نُشر في 2017/03/10، العدد: 10567، ص(16)]السباحة رمز لتعلم مجابهة مصاعب الحياة يهزم فيلم “ضوء القمر” (Moonlight) بالتأكيد تصنيفه داخل إطار أفلام المثليين أو أفلام الأقليات الملوّنة، منذ اللحظة الأولى، إنه عمل يتميّز بالحساسية الخاصة والرقة في التعامل مع موضوعه والسلاسة في السرد وجمال الصورة وبراعة الأداء. ومن خلال المونتاج المحكم، يكشف الفيلم تدريجيا، عمّا يكمُن تحت جلد شخصيته الرئيسية، من مشاعر مضطربة ومتناقضة، فبطل الفيلم الصبي “شيرون” الذي نتابعه إلى أن يكبر، خلال نحو ستة عشر عاما أو أكثر، شخصية تحت التكوين، فهو باحث عن حقيقة نفسه، يريد أن يُحدّد موقفه من العالم ومن الأسرة والمجتمع والدنيا، والجنس أيضا، لكنه يبدو كما لو كان في حاجة إلى من يرشده إلى الطريق. ومخرج الفيلم باري جنكنز، وهذا فيلمه الروائي الطويل الثاني، يعرف جيدا تضاريس وأبعاد موضوعه، وطبيعة المكان الذي تدور فيه أحداثه، وقد درس مع مصوّره نغماته اللونية، ونجح في نقل حرارته وقيظه وظلاله وعتمة لياليه للمشاهدين. بطل الفيلم الصبي يبدو وكأنه يتجه من البداية نحو وجهة معاكسة للصورة الشائعة عن أبناء الأسر الفقيرة من السود الأميركيين الذين يعيشون على هامش المجتمع، فهو يختلف عن أقرانه من تلاميذ المدرسة، بميله للصمت، وللعزلة وللانكفاء على الذات، لتجنّب المشاجرات والعنف، مما يعرّضه لسخرية الكثيرين من زملائه الذين يعتبرونه “مخنثا”، بل وتتهكم أمه أيضا على طريقة مشيته. بطلنا شيرون لا يزال في التاسعة أو العاشرة، يقيم مع أمه دون الأب الغائب الذي لا وجود له، داخل مجتمع يبدو مغلقا تماما على قاطنيه من “السود”، كما لو كان في إحدى المدن الأفريقية، فلا توجد ضمن شخصيات الفيلم شخصية من البيض الأميركيين، وعندما يظهر هؤلاء فيما بعد، فإنهم يتجسّدون في رجال الشرطة الذين يهرعون في نهاية القسم الثاني من الفيلم للقبض على شيرون، وهو اختيار مقصود تماما، بغية الابتعاد عن نمطية الصراع التقليدي في مثل هذا النوع من الأفلام. والمكان في الواقع، هو إحدى ضواحي ميامي في جنوب فلوريدا، حيث ترتفع نسبة المهاجرين وأبناء المهاجرين من الأصول الكوبية. في ضوء القمر"ضوء القمر" الحاصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم الفيلم المستقل، الذي لم تتجاوز ميزانيته مليون ونصف مليون دولار، مقتبس ببراعة من المسرحية القصيرة “في ضوء القمر يكتسب الأولاد السود زرقة” للكاتب تاريل ألفين مكارني (36 سنة)، كتب له السيناريو مخرجه باري جنكنز، وحصل الفيلم عن جدارة على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو معد ّعن أصل أدبي، فهو من حيث طريقة السرد وتضمّنه الكثير من التفاصيل الموحية، يجعل الشخصية الرئيسية في الفيلم، أي شيرون محور أحداثه، لكنه يبدأ من خلال شخصية أخرى هي شخصية “خوان”، ثم ينتقل لإظهار غيرها من الشخصيات في توازن دقيق مبتعدا تماما عن “العادي والمتوقع” في فيلم يدور في مجتمع السود الأميركيين. ورغم أن الفيلم يتعامل، ولو على نحو خافت، مع موضوع تهميش السود وحياة الفقر والفاقة والحرمان التي يعيشون فيها، مصوّرا انعكاس هذا النمط القاسي على الشخصيات، من ناحية إدمان تعاطي المخدرات كما تفعل والدة شيرون، والتي تصل في قسوتها عندما تستبد بها “الحاجة” إلى المخدّر للتشاجر مع ابنها وانتزاع ما معه من قروش قليلة ربما حصل عليها بدافع التعاطف والشفقة من “الأب البديل” الذي عثر عليه في شخص خوان، وهو مدخلنا إلى الفيلم وإلى الدراما. وخوان شاب أسود فارع وقوي، يدير حلقة صغيرة من موزعي المخدرات، إلا أنه في المقابل يخالف الصورة النمطية لهذا النوع من الشخصيات السائدة في الأفلام الأميركية، فهو يتمتع بنظرة إنسانية وأفق منفتح، ويبدو منقسما من داخله، بين طفولته التعيسة التي يتطرق إليها في حديثه مع شيرون، وبين واقعه الحالي الذي يبدو كما لو كان قدره، وما انتشاله للصبي ومحاولة تعليمه أشياء جديدة في الحياة سوى تعبير عن ما فشل في تعلمه في طفولته. إنه يلتقيه بالحماية عندما يهرب شيرون لكي لا يفتك به الأولاد في المدرسة، ليضعه خوان تحت حمايته، وفي ظل رعاية صديقته الجميلة تيريزا التي يشاركها السكن. بين الفصول الثلاثة ينقسم الفيلم إلى ثلاثة فصول، يصوّر كل منها فصلا من فصول حياة بطلنا الصغير الذي ينتقل من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب، ويحمل كل فصل اسما من الأسماء المختلفة التي تطلق على البطل الصغير، وهي “ليتل” (أي الصغير)، وشيرون (وهو اسمه الحقيقي)، و”بلاك” (أسود) وهو الاسم الذي يطلقه عليه صديقه الحميم “كيفن” الذي يعتبر الأقرب إليه، والذي سيلعب ربما من حيث لا يدري، دورا كبيرا في إطلاع الفتى على حقيقة نفسه. سيظل شيرون في البداية يجد المأوى والأمان والطعام الجيّد، في منزل الأم البديلة تيريزا التي تعتني به وتعلمه كيف يعتني بنفسه، بينما تهمله أمه الحقيقية بولا التي تغرق تدريجيا في مستنقع المخدرات إلى أن تصل لمرحلة الدمار الكامل في النهاية. وفي مشهد صادم، يقوم خوان بتوصليه إليها محاولا لفت نظرها إلى ضرورة أن توليه عناية أكبر، فتسخر مما تعتبره “وصاية” مزعومة، وتتساءل في تهكم “وهل ستتولى أنت تربيته الآن؟ أنت الذي تبيعني المخدرات؟” وفي أحد المشاهد البديعة يصطحب خوان الصبي إلى شاطئ البحر، ثم يسبح معه ليعلمه السباحة، كيف يتحكم في حركة جسده وفي التعامل مع الأمواج. وتطغي زرقة البحر على الصورة، في ترجمة شعرية للعنوان الأصلي. واللون الأزرق عموما هو أحد الألوان الأساسية في الفيلم، مع البرتقالي والأسود والأبيض، فالمصوّر جيمس لاكستون، يستخدم الألوان الصريحة الحارة، كما حركة الكاميرا المحمولة والمتحركة، بحيث يجعل الشخصية طول الوقت في علاقة مع المكان، إن الكاميرا المهتزّة المتأرجحة خاصة في الجزء الأول من الفيلم، تمنح الشعور بالاضطراب وبارتباك البطل الصغيروبحيرته وبرغبته في الفرار من واقعه. وفي الفصل الثاني يمر بطلنا “ليتل” للمرة الأولى، بتجربة التلامس الجسدي مع صديقه كيفن، وهو ليس مثليا، بل إنه يطارد الفتيات، وعندما يذهب صاحبنا لقضاء الليلة وحده في منزل تيريزا الجميلة المغرية تتطلع إليه بعد أن أصبح فتى ممشوق القوام، ويتطلع هو إليها خفية وتأمل قوامها المغري وهي تعلمه كيف يقوم بإعداد الفراش، يلمح نهديها من تحت قميصها المكشوف، لكنه لا يقترب منها، بل يذهب مباشرة للنوم.تيريزا الأم البديلة التي عثر عليها البطل الصغير تتحرك الكاميرا في فراغ الغرفة، تقترب تدريجيا من الضوء في الخارج عبر شرفة مع صبغة برتقالية، لنرى شيرون يسير بظهره لنا، نحو الحديقة ليرى صديقه كيفن وهو يضاجع صديقته ثم يلتفت إليه متسائلا “هل يعجبك ما تراه؟”، وتتبدى على وجه بطلنا مشاعر متضاربة غير محددة ثم يستيقظ من نومه. سيتعرض شيرون للاعتداء البدني العنيف من جانب صديقه كيفن، الذي يضطر لضربه تحت تهديد من زعيم عصابة الفتية الأشقياء في المدرسة الذين ينتهزون كل فرصة للتنكيل بشيرون وإهانته بسبب اختلاف شخصيته عنهم، هذا الاعتداء المُهين أمام الجميع، سيولّد طاقة العنف المكبوت لدى شيرون، فلا يصبح أمامه سوى أن يردّ الصاع صاعين، لكنه سيرتكب هنا جريمته الأولى، وليولد بفعل هذه “الخطيئة” ويخرج إلى الحياة الحقيقية. إلى السجن! لا نعرف كم من الوقت يغيب شيرون وراء القضبان، كما لا نعرف سبب اختفاء خوان من الفيلم تماما منذ الفصل الثاني، وربما يكون السبب أن المخرج أراد أن يترك شيرون وقد أصبح بلا أب، يتعين عليه أن يواجه العالم بمفرده، متسلحا بما علمه إياه خوان وبما يمكن أن يتعلمه في السجن. في الفصل الثالث يكون شيرون قد غادر السجن ومرت سنوات أصبح خلالها رجلا يمتلك إرادته وقراره بنفسه، بل وأصبح متماثلا مع صورة معلمه الأول وراعيه خوان سواء من حيث شكله الخارجي، أو بعد أن أصبح مثله منغمسا في تجارة المخدرات، التي تعتبر الوسيلة الوحيدة لدى أبناء تلك الشريحة المهمشة اجتماعيا، لإثبات الوجود وتحقيق نوع من العيش خارج مستنقع الحرمان. يلتقي شيرون مجددا بصديقه القديم كيفن الذي تزوج وأصبح طاهيا في مطعم، لكنه لا يزال يحن إلى صديقه، هل يمكن أن يستأنف الاثنان علاقتهما القديمة على مستوى الحب أو الرفقة الإنسانية؟ لا نعرف، فنهاية الفيلم شاء لها المخرج أن تبقى مفتوحة. ناقد سينمائي من مصر

مشاركة :