مـنــــــــذ الآن يمكننا ان نراهن على ان مهمة جين كامبيون، المخرجة النيوزيلاندية التي تدين، ولو جزئياً، لمهرجان «كان» بتحولها قبل نحو عقدين من الزمن الى نجمة حقيقية في سماء الإخراج السينمائي العالمي، لن تكون سهلة في دورة هذا العام من المهرجان نفسه. فكامبيون، التي سبق ان شاركت في دورات عدة من «كان» قبل الآن بأفلامها كمخرجة وفازت مرة بالسعفة الذهبية عن رائعتها «البيانو»، لن تحضر هذه المرة كمتسابقة، بل كرئيسة للجنة تحكيم المسابقة الرسمية. سيكون على جين كامبيون ورفاقها من أعضاء اللجنة، بعد مشاهدة الأفلام الـ18 المتبارية طوال ايام المهرجان بين الرابع عشر والخامس والعشرين من أيار (مايو) المقبل، أن يختاروا الفائزين بالجوائز القليلة، إنما المركّزة، التي يمنحها هذا المهرجان في يومه الأخير، بين أعمال لمبدعين من الطراز الأرفع. بالنسبة الى آخرين، وفي مهرجانات أخرى، قد تبدو المهمة سهلة، لكن المشكلة هنا ان المحكّمين مضطرون في نهاية الأمر الى الحسم بين متساوين. بين عدد من كبار سينمائيي أيامنا هذه. وبخاصة بين مبدعين من المعروف ان كل واحد منهم يدين للمهرجان نفسه بجزء من شهرته، كما يدين لهم المهرجان بالعراقة التي تمكّن من الحفاظ عليها في العقدين الأخيرين... بفضل أفلامهم. صراع «الجبابرة» أسماء كبيرة إذاً هي تلك التي رأت ان من المناسب والجيّد لها ان تقدم أعمالها الجديدة في عروضها الأولى في هذه الدورة السابعة والستين للمهرجان الفرنسي الذي يعتبره كثر أهم مهرجان سينمائي في العالم وإن لقي دائماً منافسة حامية من «شقيقيه» الأوروبيين اللدودين، «برلين» و «البندقية». فحين يجتمع جان - لوك غودار ودافيد كروننبرغ وكين لوتش وآتوم إيغويان والأخوان داردين ومايك لي وأوليفييه السايس في مهرجان واحد ليتباروا في ما بينهم، يصبح من الصعب تصوّر الكيفية التي ستتصرف بها جين كامبيون التي اعتادت ان تسمّي نفسها «أختاً صغيرة» لهؤلاء جميعاً. مهما يكن من أمر، بمسابقة وجوائز أو من دونها، لا شك في أن اجتماع أفلام مبدعين من هذا المستوى يشكل في حد ذاته حدثاً سينمائياً كبيراً. فكيف إذا كان هناك ظلّ كبير سيخيّم على أيام المهرجان، من دون أدنى شك وهو ظل غريس كيلي، أميرة موناكو الراحلة صبية قبل نحو نصف قرن ولا تزال حتى الآن تشع أنوثة وقد تحوّلت اسطورة من أساطير القرن العشرين؟ غريس كيلي تحضر في دورة «كان» تحت ملامح الفاتنة الأسترالية نيكول كيدمان كما بات الجميع يعرفون، في الفيلم الذي حققه الفرنسي أوليفييه دهان ليروي فيه سيرة عام من حياة الفاتنة التي بعد انتقالها من تربّع عرش النجومية في هوليوود، انتقلت الى إمارة موناكو لتتربّع على عرش وقلب أميرها رينييه، ومن ثمّ لتلعب دوراً سياسياً بين باريس ومونت كارلو يروي الفيلم تفاصيله. فيلم دهان «غريس أوف موناكو» يعرض في ليلة افتتاح المهرجان ولكن خارج المسابقة الرسمية. والحال انه مهما سيكون رأي النقاد في الفيلم الذي يعود به مخرجه الى الشاشة الكبيرة بعد سنوات من فيلمه الجميل عن حياة إديث بياف «لا موم»، فإن ظلّ غريس وذكرياتها سيخيمان على المهرجان وستطنب الصحافة في الحديث عنها، وستستعيد الشاشات الصغيرة افلامها للمناسبة وتكرّس برامج لها. ومن الواضح ان هذا كله لن يفوته ان يسعد نيكول كيدمان التي من المؤكد انها باتت في شوق الى استعادة نجوميتها الغاربة ولو بالواسطة. عودة التركي الشاطر طبعاً لن تكون غريس ونيكول، الأصل والصورة، النجمتين الوحيدتين في المهرجان، ولن يكون «غريس أوف موناكو» الفيلم الوحيد المنتظر. إذ حين تتجاور في هذه الدورة الكانيّة أسماء المبدعين التي ذكرناها، وأسماء زملاء لهم لا يقلون عنهم أهمية، قد يكون من المنطقي القول ان أسماء المخرجين ربما ستطغى على اسماء الممثلين، وهذا أمر يحدث كثيراً في «كان» على اية حال. ولا سيما حين يكون المخرجون من النوع الذي يطول غيابه ولو نسبياً، أو من النوع الذي كان أوصل إبداعه في عمل سابق له الى ذروة تجعل انتظار تاليه حتمياً. فالتركي نوري بلجي جيلان، كان قدم قبل ثلاث سنوات في «كان» تحفة استثنائية نالت جائزة افضل إخراج، بعدما كانت كل افلامه السابقة نالت جوائز كبرى في «برلين» و «كان». يومها وبعد الصدمة الإيجابية المدهشة التي كانها «حدث ذات يوم في الأناضول»، تساءل كثر الى اين سيوصل جيلان ابداعه في العمل التالي له. ويقيناً ان الجواب آت هذا العام في جديده «سبات شتوي». حتى اليوم لا يعرف كثر عمّ يتحدث الفيلم السابع لصاحب «من بعيد» و «ثلاثة قرود»... لكن كثراً يعرفون ان أحداثه تدور في الأناضول ويتوقعونه عملاً يؤكد مكانة مخرجه الضخمة في السينما العالمية. الشيء نفسه يمكن ان يقال عن الكندي من اصول أرمنية - مصرية آتوم إيغويان. فهو الآخر غائب منذ سنوات، وربما منذ فيلمه الذي تناول فيه في شكل ملتبس الإرهاب الشرق أوسطي. هذه المرة يعود أيغويان بفيلم أعطاه عنواناً جديداً هو «الأسيرات» بعدما كان عنوانه الأول «ملكات الليل»، وهو فيلم صوره في أونتاريو في كندا بعدما كان من قبله قد صوّر أفلاماً عدة في مناطق متنوعة من الشمال الأميركي كما في منطقة آرارات الأرمنية. الأخوان جان - بيار ولوك داردين عائدان بدورهما بعد غياب، الى «كان» الذي خصّهما بالسعفة الذهبية غير مرة قبل الآن. عنوان مشاركة الأخوين هذه المرة «يومان وليلة واحدة»، وهو فيلم لم يعرف عنه الكثير حتى الآن. ولكن الجمهور العريض الذي يحب سينما هذين المبدعين البلجيكيين الخاصة ويتابعهما بشغف، سيحب الفيلم الجديد بالتأكيد وسيتساءل طوال ايام «كان» عما اذا كانا سيحققان معجزة الفوز مرة جديدة فيحطمان ارقاماً قياسية في هذا المجال سبقهما اليها، على سبيل المثال، النمسوي ميشال هانيكي و «اليوغوسلافي» إمير كوستوريتسا اللذان سيلاحظ غيابهما بقوة، الأول منذ عامين والثاني منذ أعوام عدة. في المقابل، يحافظ كين لوتش ومايك لي، الإنكليزيان المتميزان، على إيقاع حضورهما في مسابقات كان الأول مرة كل عامين تقريباً والثاني مرة كلما حقق فيلماً جديداً له. لوتش يعرض هذه المرة جديده «قاعة جيمي» الذي من المتوقع ان يغيب فيه عن الإغراق في السياسة كما فعل في الفيلم الذي عرضه في «كان» قبل عامين عن صناعة الويسكي وسرقة أسرارها، ليقترب من المسائل الاجتماعية على عادته في أفلامه التي يفضل فيها ان يدنو من مواضيعه بخفة وأناقة، حتى مع محافظته على سمعته بوصفه «آخر اليساريين المحترمين في السينما العالمية». أما مواطنه مايك لي فيعود بجديده «مستر تورنر» على رغم «الظلم» الذي طاول قبل سنوات تحفته «عام آخر» التي فضّل عليها محكمو «كان» حينها أفلاماً من الواضح اليوم ان أياً منها لم يكن ليرقى الى ذلك الفيلم البديع. على رغم الظلم، عاد لي إذاً. فهل يكون من المرجحين لفوز ما ينصفه هذه المرة؟ سؤال لن يكون في الإمكان الإجابة عنه إلا بعد عرض الفيلم طبعاً، وإن كان مسار لي المهني يسمح دائماً بتوقع ان تكون افلامه من النوع المميز والعميق. كبير الكبار يجرب وكأننا نتحدث هنا عن غودار. غودار الكبير الذي على رغم دنوه من عامه التسعين، لا يزال قادراً على ان يحقق افلامه بنشاط وحيوية، كما على ان يقبل المشاركة في المسابقات متنافساً مع مبدعين لا يكفّون عن تأكيد كونهم من «تلاميذه الصغار». وأكثر من هذا: لا يزال غودار قادراً على التجريب وعلى خوض كل جديد. إذ بجرأة تحتسب له يخوض غودار هذه المرة تجربة التصوير بالأبعاد الثلاثة في فيلم يبدو من عنوانه على الأقل انه ابعد ما يكون عن تلك الأعمال الضخمة المبهرة التي اعتادت ان تُقدّم بتقنية الأبعاد الثلاثة ولا سيما لجمهور المراهقين خلال الأعوام الأخيرة. فغودار اختار لفيلمه الجديد عنوان «وداعاً للغة»... ولفهم علاقة الوداع باللغة واللغة بالشاشة والشاشة الغودارية بالأبعاد الثلاثة، ما علينا سوى ان ننتظر بضعة أسابيع ليتوضح لنا كل شيء، هذا اذا كان يمكن احداً ان يزعم انه قادر على الوصول الى وضوح ما في فيلم لغودار. اللافت هنا ان شركة فوكس الأميركية التي لم يُعهد عنها اهتمام بالسينما التجريبية أو ولع خاص بالسينما الغودارية، استبقت عروض كان واشترت حقوق توزيع «وداعاً للغة» في الولايات المتحدة، وهذا في حد ذاته حدث سينمائي تاريخي! طبعاً سيلاحظ متصفحو برنامج الدورة الجديدة لمهرجان «كان» ان السينما الأميركية تكاد تكون غائبة وبخاصة عن المسابقة الرسمية، إذ لولا حضور الممثل - المخرج تومي لي جونز في ثاني فيلم كبير له يعرض في «كان» وهو «ذا هومسمان»، بعد «الجنازات الثلاث...» الذي عرض قبل سنوات، لمرّت السينما الأميركية مرور الكرام. وفي المقابل تحضر السينما الكندية بقوة عبر ثلاثة أفلام لثلاثة من ابرز مخرجيها: إيغويان وكروننبرغ وأيضاً العشريني كزافييه دولان الذي يعتبر ظاهرة في السينما العالمية ويحاول هذا العام ان يكرس الظاهرة بجديده «مامّي». أما المنافس الرئيس للسينما الكندية، في المسابقة الرسمية على الأقل، فهو السينما الفرنسية التي - إذا احتسبنا غودار - تشارك بما لا يقلّ عن خمسة أفلام، إذ الى جانب افلام غودار ودهان، هناك اوليفييه السايس صاحب «كارلوس» الذي يعود هذه المرة بفيلم «سيلز ماريا»، وهناك ايضاً برتران بونيللو الذي يعرض فيلمه الجديد «سان لوران» وهو ثاني فيلم يحقق في فرنسا هذا العام عن مصمم الأزياء الشهير. كما ان هناك عودة فرنسية أخرى كانت منتظرة منذ عامين وهي عودة ميشال هازانافيشيوس الذي يعود بفيلم جديد عنوانه «البحث» يحاول فيه، كما يبدو، ان يكرر النجاح الذي كان حققه بفيلمه الاستثنائي «الفنان»، فهل تراه سينجح في هذا؟ ويبقى بعد هذا من عروض المسابقة الرسمية فيلم عودة اليابانية ناوومي كاواسي «صامت هو الماء» الذي يؤمن الحضور الآسيوي الوحيد في مسابقة كانت اعتادت على حضور الأفلام الصينية والكورية واليابانية الى حدّ التخمة أحياناً. ومهما يكن في هذا المجال، لا بد من ان نذكر ان السينما الصينية إن لم تحضر في المسابقة الرسمية، فإنها حاضرة في شكل مشرف في عروض خارج المسابقة ولا سيما من خلال عودة أخرى كانت منتظرة منذ زمن بعيد، فتحققت مزدوجة: ففي فيلم يسمّى تحديداً «العودة الى الديار» يعود المخرج الصيني الكبير دجانغ ييمو معيداً معه نجمة أفلامه الأولى وشريكة حياته غونغ لي بعدما ابتعدت هي الأخرى عن أفلامه كما عن «كان»، سنوات طويلة. وما يقال عن السينما الصينية هنا يمكن ان يقال عن السينما العربية، التي لولا عرض الفيلم الجديد للسوري أسامة محمد في تظاهرة «عروض خاصة» لبدت غائبة عن هذه التظاهرة العالمية بشكل فاضح. ويحمل فيلم اسامة محمد في الفرنسية عنواناً يعني في العربية «ماء فضي»... أما ما تبقى فأفلام متنوعة آتية من روسيا («لفياتان» لآندريه زفياغنتسيف) وإسبانيا («حكايات وحشية» لداميان زيفرون) ومن مالي («تمبوكتو» لعبدالرحمن سيساكو)، اضافة الى «العجيبة» لآليس رورووشر و «صائد الثعالب» لبينيت ميلر. وفي النهاية، للتعويض على غياب بلدان وموازنة حضور كثيف لبلدان أخرى، يبقى الاتكال على التظاهرات الكثيرة الباقية والتي سنجد مناسبات مقبلة بالتأكيد للحديث عن عروضها... سينما
مشاركة :