لم يبق الروائيّ سرّه الفنّيّ بعيداً عن متناول القارئ، بل تراه يكشف له آلياته وتقنياته المعتمدة في عمله حين يخبره عن تفاصيل التلصّص الذي يكون في أكثر من منحى.العرب هيثم حسين [نُشر في 2017/03/13، العدد: 10570، ص(15)] تتكرّر فكرة التلصّص في عدد من الأعمال الأدبيّة التي تتّخذها مركزاً وجسراً في الوقت نفسه، تتنقّل بين العتبات متسلّحة بالتخفّي والتواري واستراق النظر، ومن ثمّ الإيهام بنقل الأسرار المكتشفة إلى القارئ الذي يثار فضوله بحيث يبقى متشوّقاً لمعرفة المزيد من مشاهدات المتلصّص. لم يبق الروائيّ سرّه الفنّيّ بعيداً عن متناول القارئ، بل تراه يكشف له آلياته وتقنياته المعتمدة في عمله حين يخبره عن تفاصيل التلصّص الذي يكون في أكثر من منحى، منه ما يكون إلى أعماق الشخصيّات عبر تظهير انفعالاتها ووساوسها ومخاوفها، ومنها عبر التقاط ما يضجّ به الخارج من مفارقات وغرائب. يشتمل التلصّص على فضول وانهمام ويتحوّل إلى أداة تشريح وتأثير، ومن هنا اختار صنع الله إبراهيم لإحدى رواياته عنوان “التلصّص” في مكاشفة ومصارحة وانفتاح على الذات والتاريخ، وأخرج التلصّص من سرّيّته إلى العلن، كما أضفى على اللعبة الروائيّة المزيد من التشويق من خلال الإيحاء الذي يخلقه الانطباع الناتج عن قراءة العنوان. وكان الروائيّ السوريّ مصطفى خليفة قد خصّ التلصّص بالكثير من الاهتمام في عمله “القوقعة” والذي اختار له عنواناً فرعيّاً “يوميّات متلصّص”، وكان المتلصّص راويه ومرساله إلى عالم السجن الرهيب الذي صوّر قسوته ووحشية السجّانين فيه، وكان الثقب المنفتح على باحة السجن كوّة الضوء الذي يحمل للراوي شيئاً من الأمل. مؤخّراً اختار الروائي الإماراتيّ سلطان العميمي في روايته “غرفة واحدة لا تكفي” عالم العتمة الداخلية للمرء لينفتح من خلالها على الخارج والتاريخ بدوره، وعلى ما يعترك في أعماق الإنسان من صراعات، وكان التلصّص بوّابته، وجسر راويه قرواش، للعبور وتجاوز الجدران المتخيّلة. ركّز العميمي على فكرة أنّ التلصّص يبرز كحقيقة وجودية برغم التعتيم عليها أو تمثيل الترفّع عنها، كتب في مستهلّ عمله: “في غرفة صغيرة بمكان مجهول، ثمة شخص يتلصّص من ثقب الباب على شخص كان يتلصّص على شخص آخر في الغرفة المجاورة له. كانوا يتلصصون جميعاً على أشخاص آخرين دون توقف، ولا يفعلون شيئاً غير ذلك”. كأنّما يشير إلى أنّ التلصّص يظلّ ميدان تواطؤ متجدّد. قد يتحوّل الروائيّ في بعض الأحيان إلى موضوع للتلصّص من قبل القرّاء، وقد يتّخذ بعض القرّاء روايات الأدباء -وربّما أعمال الروائيّات بالأساس- نفقاً وكوّة لكشف أحداث حياتهم المتوقّعة المخبوءة بين السطور، ويكون البحث عن مماثلة ومطابقة، وربّما التباهي باكتشافات تظلّ مثار رثاء، لأنّ محاولة قلب حيل الروائيّ عليه وتقييد حياته بخيوط التلصّص عليه لا تخلو من عملية تكميم للخيال وتأثيم له بناء على الظنون والتخمينات التي لا محلّ لها من الإعراب في عالم الرواية والخيال.كاتب من سورياهيثم حسين
مشاركة :