مسؤوليات تاريخية أمام شيعة العراق د. ماجد السامرائي يتساءل بعض الشيعة المهتمين بالشأن العراقي عن أسباب استهداف إيران بالنقد الدائم وتحميلها مسؤولية ما يحصل من خراب في العراق، في الوقت الذي يتم فيه -من وجهة نظرهم- تجاهل الدورين السعودي والقطري في ما يحصل بالبلد، وتشارك هؤلاء النخب الشيعية العراقية مجموعة من المثقفين العرب ممن ركبوا سابقا موجة التيار القومي العربي، ووصل بهم الأمر في وقت قريب سابق إلى اعتبار صدام حسين ونظامه الأمل لتحرير فلسطين وتحقيق أهداف الأمة. ولكن بعد سقوطه بالقوتين الأميركية والإيرانية، استداروا نحو طهران التي أخذت تعوضهم بالدعم المادي ما فقدوه من صدام حسين، وهؤلاء مكشوفون أمام الجمهور العراقي والعربي، ولا قيمة لآرائهم السياسية والإعلامية. ما نهتم به في هذه السطور هو وجهات نظر النخب الشيعية العراقية ولماذا تغفل عيونها عن حقائق التاريخ والسياسة، وتقع من حيث تعرف أو لا تعرف في خانة التخلي عن الوطنية العراقية لصالح الغير صاحب المصالح والغايات في العراق. وهنا لا بد من التأكيد بأنه بُذل خلال السنوات الأربع عشرة الماضية جهد إيراني مكثف لإحداث شرخ طائفي داخل العراق استهدف العرب الشيعة قبل السنة، وذلك بعملية عزل وصراع وتصادم ما بين الطائفتين الرئيسيتين، الشيعة والسنة، عبر وسائل وقعت ضحيتها غالبية السياسيين من السنة والشيعة الذين دخلوا العملية السياسية لأنها كانت البطاقة الخضراء لمرورهم. كما مورست الكثير من المواقف السياسية والإعلامية العربية، وهي سنية طبعاً أوحت بالعداء تجاه الشيعة العراقيين في خلط بين بعض الأحزاب التي اندفعت لتمرير المشاريع الإيرانية في العراق، وساهمت تلك المواقف في عزل الشيعة العرب في العراق عن حاضنتهم وانتمائهم العربي وهم من قبائل أصيلة تفوق غيرها أصالة في بلاد العرب الأخرى. وقد ربح نظام إيران اللعبة لأن أهم ما كان يخشاه هو أن يقف شيعة العراق الأصيلون بوجه تمدد مشروع ولاية الفقيه، ويؤكدون تمسكهم واعتزازهم بوطنيتهم العراقية. وقد ساهمت غالبية المثقفين العراقيين الشيعة المستفيدين من وضع ما بعد 2003 في تعزيز بناء السدود وتصعيد حمى الطائفية. وما يثير الاستغراب أن من بين هؤلاء من كان يحمل أفكاراً أيديولوجية يسارية وشيوعية، لكنه وقع في خانة التفسير الطائفي والدفاع عن إيران ومشروعها التوسعي في العراق والمنطقة تحت ذرائع هزيلة مثل “لماذا تتركون إسرائيل العدوة وتتوجهون بالخصومة نحو طهران؟”، وكأن على العراقيين أن يكونوا أكثر من الفلسطينيين دفاعاً عن قضية فلسطين رغم أنه لا يستطيع أحد المزايدة على العراقيين في حسهم القومي العربي. ولنكن جدلاً إلى جانب العراقيين الشيعة المدافعين عن إيران ونضع بعض التساؤلات والحقائق للوصول إلى النتائج الموضوعية. أولا؛ حقائق التاريخ والجغرافيا تقول بأن إيران جارة للعراق وهي بلد ذو حضارة وشعوبها لديها امتداد عميق بالتاريخ رغم صفحاته السلبية في احتلالهم للعراق، وكان الإسلام وما حصل في حلقاته الأولى من مآس هو المحور المركزي لدوافع الاحتلال والتحرير. كما سجلت واقعة الحرب العراقية الإيرانية أواخر القرن الماضي نقطة سوداء في تاريخ العلاقات بين البلدين بسبب سيطرة حكم ولاية الفقيه القائم على تصدير الثورة والبدء بالعراق أولا، ورد الفعل من نظام صدام حسين الذي توهم بأنه سيعيد صفحات تاريخ الفتح الإسلامي لفارس. وكان أمل العراقيين أن تطوى صفحة الخلافات مع إيران بعد عام 2003، لكن ما حصل من تدفق للأذرع الإيرانية داخل العراق أدى إلى حصول انقسام بين المرحبين بالوجود الإيراني والرافضين له. وللابتعاد عن أي إساءة لشيعة العراق ينبغي التأكيد على حقيقة أن غالبية شيعة العراق العرب لا يحبون نظام ولاية الفقيه، وحتى أولئك الذين لجأوا إلى هناك بين عامي 1979 و2003 يتحدثون خلسة عما عانوه من امتهان من قبل المسؤولين الإيرانيين يتصل بعروبتهم وعراقيتهم. أما القلة من الشيعة المستفيدين والموالين لبعض الأحزاب فهم مرحبون بها وبوجودها النافذ في العراق. التاريخ القريب يقول إن غالبية من استشهد في حرب الثماني سنوات هم من الشيعة، وعوائل هؤلاء إذا ما نقمت فهي تنقم على النظامين في طهران وبغداد. وحين أتيحت الفرصة أمام الشيعة العرب الأصيلين للتعبير عن عدم رغبتهم في بقاء إيران قالوها صراحة خلال تظاهراتهم العام الماضي في جنوب العراق، والتي وصفتها الأحزاب الحاكمة بأنها نظمت من قبل “مندسين”. ثانيا؛ الوقائع تشير إلى أن نظام ولاية الفقيه قائم وفق دستور جمهورية إيران الإسلامية على مبدأ تصدير الثورة خارج إيران، حيث يقول في مادته عدد 154 “جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أيّ نقطة في العالم”. ونتذكر خلال الحرب العراقية الإيرانية الشعار الإيراني “الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء” وهذا يعني مشروعية الاحتلال العسكري للعراق. النظام الإيراني لا يعترف بالحدود بين الدول، وكان تأسيس الحرس الثوري كأداة أيديولوجية لتنفيذ هذا المبدأ، كما تم خلال الثلاثين سنة الماضية اعتماد أدوات حزبية في البلدان الأكثر حيوية لمشروع تصدير الثورة وفي مقدمتها حزب الله في لبنان. ولم تكن حكومة طهران بحاجة إلى هذا النموذج في العراق لأن سلطة الحكم مهيّئة لتحقيق هذه الأهداف، كما أنها لم تعد بحاجة إلى القلق حول مبدأ “التدخل في الشؤون الداخلية” بل تنادي بتحقيقه لأنه لا يمسها من قريب أو بعيد. وهذه هي أحد عناصر قوة مبدأ تصدير الثورة في تحايله على العلاقات الدولية. وهو الذي وفّر الأغطية لكل ما قامت به إيران لاحقاً بعد العراق ولبنان في كل من سوريا واليمن. المبدأ الأيديولوجي الإيراني يرى أن جميع الشيعة في العالم تابعون لحكومة جمهورية إيران الإسلامية، وهذا هو أساس المشكلة التي حصلت في العراق بعد العام 2003. وبذلك وُضع شيعة العراق العرب أمام طريق واحد للتعبير عن حقوقهم وآمالهم وتطلعاتهم هو ولاؤهم لنظام الملالي ودعم الأحزاب الشيعية الكبيرة الحاكمة، ولا يستطيع أحد أن يتحرر من هذه القاعدة السياسية رغم شكليات الديمقراطية الجديدة، ورغم دستور البلاد الذي صممه الأميركان وعدّل عليه خلال إعداده ممثلو الأحزاب الشيعية. وكانت مواقف الكثير من السياسيين العرب السنة تدفع شيعة عرب العراق إلى الارتماء في أحضان إيران. ثالثاً؛ في مفهوم الاستراتيجية والسياسة لدى إيران الحق في الوصول إلى مصاف الدول الكبرى في المنطقة إذا تعاطت بالمعايير السياسية التقليدية والحديثة، ومعروف أن إيران لها بصمتها في حركة التحولات الجديدة إلا أن البشرية قد غادرت عالم الإمبراطوريات والاستعمار القديم والحديث، وشعوب عالم اليوم تعيش في منظومة العولمة وقصة حكم الأديان والطوائف أصبحت جزءاً من التاريخ، كما أن العراق وبلدان العالم النامية، وإيران من بينها، تحتاج إلى بناء تنمية بشرية واقتصادية خصوصاً أن النفط في مقدمة ثروات العراق وإيران، وغالبية الشعوب الإيرانية تعيش الفقر والحرمان فيما تنشغل حكومة طهران ببناء الترسانة الحربية لتضاهي الدول الكبرى، وتعمل على عسكرة المجتمع وتحاول نقل مشروع العسكرة إلى العراق في وقت تعب فيه العراقيون من العسكرة والحروب والصراعات. هناك حقائق جديدة في الوسط الشيعي العراقي ينبغي على من يحاول تبني مشروع عراقي عابر للطائفية الانتباه إليها، وهي تبلور وعي سياسي بين الكثير من النخب الشيعية التي وصلت إلى قناعات راسخة بأن شيعة العراق لم يعودوا ورقة سهلة بيد السياسيين الفاسدين والفرصة التاريخية قائمة الآن أمامهم رغم المعوقات التي ستضعها الكتل السياسية الكبيرة. لقد فشل مشروع الإسلام السياسي الشيعي والسني، ولعل القاعدة الشعبية للمشروع الوطني ستنطلق من أبناء المحافظات الوسطى والجنوبية وهم أصحاب تاريخ ناصع بذلك. أما المندفعون للاحتقان والاحتراب الطائفي فعمرهم قصير ولعل التحولات القريبة ستفرز قوى عراقية خيرة لصالح البلد. كاتب عراقي باهر/12
مشاركة :