تعامل الاوروبيون بروية وحكمة مع تصريحات الرئيس التركي اردوغان غير المسبوقة التي وصف من خلالها السياسة الهولندية بالنازية. وهي صفة محظورة لا يقبل الأوروبيون تداولها علنا، لأنها تشير إلى واحدة من أكثر لحظات تاريخهم المعاصر بؤسا. ربما يعود سبب ذلك إلى أنهم كانوا يتوقعون أن يصاب اردوغان بالجنون الانفعالي وهو يتلقى ضربة لم يسع إلى تفاديها، بل كان مصرا على أن تقع، ليتخذ منها مناسبة للتعبير عن خيباته المتراكمة نتيجة للموقف الأوروبي الذي تركه وحيدا في مواجهة روسيا بعد أزمة اسقاط الروسية. الأسوأ بالنسبة لاردوغان أن أوروبا لم تظهر أي اهتمام يُذكر بما فعلته تركيا من أجل استرضاء روسيا. صمتت أوروبا حين رأت اردوغان يرتمي في أحضان بوتين، وهو صمت لم يكن يتوقعه الرئيس التركي الذي يعتقد أنه قدم خدمات جليلة إلى الغرب حين فتح حدوده مع سوريا للمقاتلين القادمين من كل أنحاء الأرض للمساهمة في اسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد. يومها بدا اردوغان كما لو أن فقد الجدار الذي يستند إليه. وكما يبدو فإن الخيار الروسي لم يكن بالنسبة لاردوغان رهانا نهائيا، بقدر ما كان محاولة لابتزاز أوروبا وبالأخص أن الأوروبيين قد أنهوا أزمة اللاجئين عن طريق تقديم رشوة إلى تركيا والوعد بتسهيل دخول الاتراك إلى أوروبا. قدمت أوروبا الرشوة غير أنها لم تف بوعدها الذي كان اردوغان ينظر إليه باعتباره خطوة تمهد لقبول تركيا عضوا في الاتحاد الأوروبي. أخفقت تركيا في ابتزاز أوروبا بخيارها الروسي. وهو ما أحرج اردوغان الذي لم يصدق أنه بات وحيدا في ظل تبدل المواقف من الحرب الدائرة في سوريا، حيث فقدت أوروبا حماستها لإسقاط نظام الرئيس الأسد بعد أن تصاعد الحديث عن الإرهاب. وهكذا فإن ازمة اردوغان مع أوروبا لم تبدأ مع منع هولندا ومن قبلها المانيا لقيام وزرائه بالترويج للدستور الذي يوسع من صلاحياته الرئاسية بين الجاليات التركية المقيمة في أوروبا، بل كانت تلك الازمة قائمة في ظل عزوف أوروبي عن التعامل بشكل جاد مع مشروعي ارودغان المحلي والإقليمي. خلاصة القول أن أوروبا لم ترغب في أن تتورط في الترويج لولادة سلطان عثماني جديد. وهو ما يمكن أن يدركه بيسر أي متابع لتطورات العلاقة بين الطرفين. غير أن اردوغان بعناده الاخواني كان رافضا لحرية الآخرين في أن يتخذوا موقفا مناوئا لما يفكر فيه. لذلك اندفع إلى خرق السيادة الوطنية لدول أوروبية، يعرف أنها لن تتساهل في ما يتعلق بالتدخل بشؤونها الداخلية من خلال استعمال مواطنيها الذين هم من أصل تركي. غير أن كل هذا لا يعني أن الرئيس التركي قد تصرف بسذاجة حين لجأ إلى التصعيد مع أوروبا. فما يمكن توقعه أن التصعيد التركي الذي بدأ بالاستفزاز عن طريق الزيارات الملغاة وانتهى بالحديث عن النازية كان المقصود به اثارة أوروبا وجعلها تلتفت إلى تركيا التي باتت تشعر باليتم. ما يعرفه اردوغان جيدا أنه سيُضحك العالم عليه لو أنه هدد مثلا بمعاقبة هولندا. فالرجل بالرغم من هيامه بشخصيته يتمتع بنوع من الحنكة السياسية تجعله قادرا على معرفة حجم تركيا مقارنة بالدول الأوروبية منفردة ناهيك عن الاتحاد الأوروبي. ربما قال اردوغان ما قاله عن هولندا بطريقة متحدية إرضاءً لمؤيديه واشعالا للروح القومية التي غالبا ما غلفها بطابع ديني غير أنه في أساس ما قاله كان يود أن يدفع الأوروبيون إلى العودة إلى التفكير بتركيا شريكا. أوروبا التي تعاملت بحكمة مع تصريحات أردوغان المستفزة ستصدمه مرة أخرى بصمتها الذي يعني أنها لم تعد تكترث بتركيا. وهو ما قد يدفع به إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء في حق المواطنين الأوروبيين من أصول تركية حين يضعهم في موقع شبهات بالنسبة لسلطات بلادهم. ما يقوم به اردوغان وهو يسعى إلى التعبير عن صدمته انما هو نوع رث من السياسة وهو ما يشجع أوروبا على اهماله أكثر. فاروق يوسف
مشاركة :