الظاهرة المذهلة للفنان الفرنسي «جي آر»، الذي لا يعرف أحد له اسما باستثناء هذين الحرفين اللذين يدلان عليه، وبهما اشتهر، وذاع صيته بسبب صوره الفوتوغرافية التي يعتمد في التقاطها الكولاج والتركيب واختيار الأماكن التي تمنحها غرائبية عند لصقها بأحجام ضخمة. هو نفسه سعيد بهذه السرية التي تتيح له الحركة في القارات وبين البلدان، ليعلق صوره في الأماكن العامة وفي غفلة من حكومات تنظر إليه كطفيلي مزعج. من ناحيته، يعتبر أنه بريء تماما من أي حسابات سياسية، كما يقول لـ«الشرق الأوسط»: «أريد أن أكون حرا تماما لا أبتغي بيع صوري، ولا أهدف إلى كسب المال، ولا أستسيغ تمويلات الشركات التجارية للأعمال الفنية، حتى لو كانت شركات أدوات تجميل. كل ما أريده هو أن ألتقي الناس، ألتقط صوري، وأعلقها في المكان الذي يعطيها جماليتها وأمضي في سبيلي، ولتلقى بعد ذلك مصيرها». جي آر الفنان الشاب المولود عام 1983 في إحدى الضواحي الباريسية، من أب جاء من أوروبا الشرقية وأم تونسية، عاش طفولة أولاد تلك المناطق المتواضعة. ويقول حين نسأله عن طفولته، ومن أين أتته نزعته الإنسانية الفياضة: «أنا تربيت في الشارع، بين الناس، في أحياء يبقى فيها الأولاد مع بعضهم، ولا يزال هذا ما يجذبني ويعنيني في تسفاري». في السابعة عشرة بدأ يلتقط صورا ويطبعها ويعلقها بجانب بعضها البعض على الجدران وحيث وجد ذلك مناسبا في الضاحية الباريسية التي كان يعيش فيها. يقول جي آر ضاحكا، وهو يبقى يحتفظ بنظارته السوداء على عينيه لإخفاء شيء من ملامحه: «لو ولدت قبل عشر سنوات، لما صرت شيئا. أنا ابن كاميرا الديجيتال، التي جعلت التصوير في متناول الجميع ولم يعد حكرا على الأغنياء. ونتاج وسائل التواصل الاجتماعي التي سمحت لمن أحبوا أعمالي أن يصوروها وينشروها، وتصل إلى كل العالم. وأنا أيضا ابن الخطوط الجوية الرخيصة (لوكوست) التي سمحت بأن أشتري بطاقة سفر بسعر زهيد وأذهب إلى حيث أتمنى». كل هذه التطورات في العالم ترافقت مع بلوغي السن التي كنت أبحث فيها عن ذاتي. ابن العولمة إذن، وكل المتغيرات التي عصف بالمجتمعات مع مطلع تسعينات القرن الماضي، وجعلت من جي آر، الآتي من عائلة رقيقة الحال، أحد أهم الفنانين العالميين وأكثرهم شهرة. كما جعلت منه فنانا أقرب إلى المزاج الأميركي حيث يحتضن بحفاوة كبيرة في نيويورك، ووفر له الأميركيون متطلباته بما فيها السكن، أكثر مما هو محبوب في فرنسا، التي يبدو أن مزاجه الشعبي العام، لا يروق للفرنسيين النزّاعين إلى شيء من النخبوية في الفن. يستغرب جي آر أن البعض يدعوه لإقامة معارض داخل القاعات المغلقة، ويأتي الزوار بهدف التفرج عليها. ويقول: «أنا فنان أعرض أعمالي في الشوارع، وشغلي يتغذي من احتكاكي بالناس. لم أتعود أن يدفع لي مقابل شغلي، وأن يتكلف الجمهور مشقة الإتيان إلي لمشاهدة ما أفعل، لأنني عادة أنا الذي أذهب إلى الآخرين لأعرض صوري وأفلامي في أحيائهم وشوارعهم وعلى جسورهم وقطاراتهم وليس العكس». ويشرح جي آر، وهو يقف وسط أعماله في معرضه الذي افتتح في الدوحة الأسبوع الماضي، ليكون الأول في العالم العربي، أن من يود التعرف على ما ينجزه لا يحتاج أكثر من زيارة صفحاته الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي أو موقعه الشخصي. في معرضه الاستعادي الذي يستمر حتى 31 مايو (أيار) المقبل، صور لمشروعه الذي نفذه على جدار الفصل العنصري من الجهتين الفلسطينية والإسرائيلية. يروي أنه أراد أن يعرف الجميع أن التشابه يصل حد التماثل في الوجوه. فكان يصور أصحاب المهنة الواحدة من الجهتين، ثم بدأ يلصق صور وجوه لفلسطينيين وإسرائيليين من الجهة الفلسطينية وسط احتشاد الجماهير واستهجانهم، وهم يقولون له إنه من غير المستحب إلصاق صور إسرائيليين، وإنه في حال سيفعل الشيء نفسه من الجهة الأخرى فلن يسمح له. مستفيدا من الإعلام ووكالات الأنباء العالمية، وأخباره التي انتشرت، تمكن جي آر من إكمال مشروعه في الجهة الأولى وكذلك من الجانب الإسرائيلي دون أن يقبض عليه. لكن الأمر لم يكن كذلك في الصين وفي دول أخرى قرر فيها أن ينفذ مشاريعه دون إذن رسمي. وفي معرض الدوحة هناك مجموعة صور «نساء بطلات» التي نفذها عام 2008 حتى 2011 وهي بورتريهات لنساء عانين من العنف والصراعات، من بلدان مختلفة من العالم. وكذلك مجموعة صور «الألعاب الأولمبية» التي أقيمت في ريو دي جانيرو، حيث ملأ شوارع المدينة بصوره الضخمة التي التقطها للرياضيين، ليجعل ريو ملعبه ومكان عرضه. من الصعب عدم ملاحظة أمرين شديدي الأهمية في صور هذا الفنان البوهيمي: الوجوه الإنسانية والتركيز الخاص جدا على العيون المكبرة التي نكاد نراها في غالبية الصور. وهو على أي حال، إنساني في أعماله حد إشعارك بأنه لا يرى غير المشاعر وراء كل تلك المشاهد التي يركّبها. ففي مجموعته التي عرضها في الدوحة للمسنين القاطنين مدنا عانت وتعرضت لتقلبات شديدة، «تكاد تنطق الوجوه التي تملأ الصور بحجمها العملاق وتجاعيد ملامحها وأخاديدها التي حفرها الزمن». لا يمكنك أن تلمس شفافية جي آر الفائقة دون أن تتفرج على الأفلام التي أنجزها وهو يلتقط صوره. فهنا تفهم أن المبنى المهجور الذي يبدو كأنه من إحدى دول العالم الثالث الفقيرة لكنه على مشارف تمثال الحرية في نيويورك، واستقبل ذات يوم لاجئين، استطاع الفنان أن يعيد إليه الحياة ويملأه بالوجوه والظلال. وهناك منزل مهجور آخر يتوق إليه مسنان، أعادهما إلى رحابه بصورة ضخمة لهما ألصقها على سقفه. وهناك في مكان آخر من أفريقيا، ذهب إلى حي فقير يمر فيه قطار، وأصر على أن يزينه بصوره، ويجعل حياة أهله شيئا آخر. من هذا الحي في كينيا كان أحد الذين تعرف عليهم جي آر معه في قطر، أثناء معرضه. هكذا يعقد الصداقات يوثق العرى مع أناس هامشيين، يصبحون له عونا وسندا. في المعرض أيضا صالة خصصها لمشاريعه في باريس أشهرها يوم طلب منه أن يقدم عملا في متحف اللوفر، وقرر أن يخفي الهرم الزجاجي الكبير أمام المتحف الشهير، ويعيد المبنى إلى عهده القديم، وسط احتفالية ضخمة. أو حين ثبت عينين كبيرتين حادتين تحدقان في المارة على قبة دار الأوبرا، أو حين وضع رأس امرأة مقلوبا على واجهة مبنى المكتبة الوطنية. وكذلك وجوه كثيرة تطل من سقف البانتيون (مقبرة العظماء في العاصمة الفرنسية). يقول جي آر: «أنا لا أستطيع أن أكون في كل مكان. الناس يطلبون مني أن أذهب إليهم، لكنني لا أستطيع إلا في حدود إمكاناتي، إنهم يستنسخون صوري التي يجدونها على وسائل التواصل ويعلقونها حيث يشاءون وكما يريدون. لا أبيع سوى واحد في المائة من أعمالي وهذا يكفيني». رغم بوهيمية جي آر، الذي يشبه في أحد وجوهه بانكسي صاحب الجداريات والرسومات خفي الوجه والهوية، فإنه عرض في أماكن مهمة وحاز جوائز عالمية. فقد أقيمت له معارض في كل من متحف راث في جنيف (سويسرا) ومتحف واتاري في طوكيو (اليابان)، ومتحف الفن المعاصر في دالاس (الولايات المتحدة الأميركية)، ومركز الفنون المعاصرة في سينسيناتي (الولايات المتحدة الأميركية)، ومتحف فريدر بوردا، بادن (ألمانيا)، وبور ستاشنز للفنون في شنغهاي (الصين) وها هو يعرض حاليا في «غاليري متاحف قطر» في كتارا.
مشاركة :