مسارعة موسكو وإفراطها في نفي تواجد قواتها بالقرب من ليبيا رسالة هدفها إبلاغ من يهمه الأمر، لا سيما واشنطن، أن أمر ليبيا قد يغري موسكو، لكنه ليس أولوية يدافع عنها الكرملين، وأن روسيا لن تسمح للضجيج الليبي أن ينتج نشازا يشوه العزف في سوريا.العرب محمد قواص [نُشر في 2017/03/17، العدد: 10574، ص(8)] بدا التقرير الذي نشرته وكالة رويترز حول خطط روسية للتدخل في ليبيا بمثابة تحذير أولي أميركي من ذهاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعيدا في طموحاته الدولية. وبدت مسارعة القاهرة وموسكو إلى نفي وجود قوات وتسهيلات عسكرية روسية في القواعد المصرية بمثابة إشعار روسي مصري بوصول الرسالة الأميركية وفهمها جيدا. ورغم أن تقرير وكالة الأنباء الشهيرة كان يمكن اعتباره عرضيا من ضمن كمّ التقارير التي تُنشر هنا وهناك، إلا أن روسيا بالغت في إصدار بيانات وتصريحات النفي من قبل منابر برلمانية ودبلوماسية وعسكرية على نحو يشي بأن ليست لموسكو مصلحة في استفزاز العالم الغربي من خلال الاقتراب من الملف الليبي على النحو الذي تدخلت به في الملف السوري. ويمكن الجزم في هذه المناسبة أن الحراك الروسي في سوريا لم يكن فقط وليد إقدام روسي يخضع لإستراتيجية روسية في المنطقة، بل ثمرة استنتاج موسكو أن الفراغ الدولي في الميدان السوري هو دعوة لها إلى الإدلاء بدلوها في ذلك البلد دون اعتراض غربي يذكر. يكفي في هذا الإطار التذكير بأن الطائرات الروسية الأولى التي بدأت هجماتها مدشّنة بداية الحملة الروسية في سوريا (30 سبتمبر 2015)، لم تتحرك إلا بعد سـاعات من اجتماع عُقـد بين الرئيس الروسي ونظيره الأميركي آنذاك باراك أوبـاما على هامش قمة الأمم المتحدة في نيويورك. ويشبه غضُّ الطرف الغربي الأميركي عن التدخل الروسي في سوريا ما يمكن اعتباره “وكالة” منحتها القوى الكبرى إلى موسكو لتولي الشأن السوري في جانبيه العسكري والسياسي. ولم تشعل واشنطن ضوءا أخضر أمام الهمّة الروسيـة إلا بعد أن نجحت موسكو في إجبار النظام السوري على تسليم ترسـانته الكيمـاوية عقـب الغضب الأميركي جراء استخدام دمشق للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية عام 2013. واكبت واشنطن موسكو في ورشتها السورية دون أن تظهر أي موقف متشدد يوقف قوة النيران التي صبّتها الطائرات الروسية على مواقع المعارضة السورية. بدا الموقف الأميركي الغربي مُبارِكا لـ“المهمة القذرة” التي لا يقوى الغرب على إنجازها، فيما ظهر مدى اصطناعية ردود الفعل الغربية المستنكرة للمآسي التي تُحدثها الغارات الروسية داخل المدن والقرى والأحياء السورية. وفيما أثبتت موسكو جدارتها في خدمة الأجندة الأميركية في ملف السلاح الكيماوي الذي كانت تملكه دمشق (وتقارير الأمم المتحدة تقول إنه ما زال موجودا ومستخدما حتى الآن)، عملت واشنطن بتفان متناه (من خلال الثنائي سيرجي لافروف- جون كيري) لتوفير كل المستلزمات الميدانية والدبلوماسية الإقليمية والدولية لدفع روسيا للمضي قدما في سعيها السوري. وفيما تسعى روسيا من خلال عملية “أستانة” إلى الهيمنة على عملية “جنيف”، تتأمل موسكو بحذر وصبر التحوّلات التي قد تفصح عنها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن العلاقات الأميركية الروسية وتداعيات المقاربات الجديدة أو المتوخاة على الملفات المشتركة في العالم. ويتناسل الحذر الروسي من ظهور مقاومة أميركية عنيدة للميول التي أفصح عنها ترامب قبل تبوئه سدة الرئاسة باتجاه التعاون مع روسيا ومباركة أداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومن خروج ملفات أمنية تتهم موسكو بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح الرئيس المنتخب، وأخرى تسلّط المجهر على اتصالات روسية مع فريق ترامب أطاح بعضها بمستشار الأمن القومي المستقيل مايكل فلين. وعلى أساس الرؤية الـروسية التي لم تعد تستشرف انقلابا إيجابيا في علاقة واشنطن ترامب بموسكو بوتين، تسعى موسكو إلى الحفاظ على هيمنتها داخل الملف السوري والتسليم لها، حتى الآن، بالإمساك الحصري بتفاصيل المسار والمصير السوريين. ورغم ظهور علامات أميركية تكشف عن انخراط عسكري أوسع في الميدان السوري، إلا أن روسيا ما زالت ترى في هذا التطور تفصيلا يتعلق بإستراتيجية الولايات المتحدة المتعلقة بمكافحة تنظيم داعش (لا سيما تحضيرا لمعركة الرقة)، وبخطط واشنطن المتعلّقة بإستراتيجيتها المقبلة في العراق. وإذا ما تشعر موسكو أن الورشة السورية للبنتاغون وإدارة البيت الأبيض لا تتدخل في الشأن الداخلي السوري المتعلق بالمواجهة بين النظام والمعارضة، فإن القيادة الروسية حريصة على عدم استفزاز الولايات المتحدة في المسّ بتوازنات وخطوط حمراء تتجاوز الفضاءات التقليدية الساخنة. ولا ريب أن التلويح الروسي بتوسيع مساحة النفوذ الدولي باتجاه ليبيا لا يعدو كونه تمرينا تجريبيا يهدف إلى تفحص مدى قابلية المجتمع الدولي للقبول بروسيا شريكا في الورشة الليبية، ومدى تسامح العواصم الغربية مع فكرة عودة موسكو لاستعادة نفوذها القديم في ليبيا إبان عهد معمر القذافي، كما تسامح مع فكرة عودتها لاستعادة نفوذها في سوريا إبان عهد حافظ الأسد. والحقيقة فإن العالم الغربي، وقبل تقرير رويترز قبل أيـام، لم يبـد أي إشارات تحفّظ أو نهي تتعلـق بالإيحاءات الروسية في ليبيا. زار قائد الجيش الوطني الليبي الجنرال خليفة حفتر موسكو كما زارها رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح. جاهر الحليفان الليبيان باستدعاء روسيا لنصرة تيارهما المتحفّظ على حكومة الوفاق الوطني (برئاسة فايز السراج) المترجلة من اتفـاق الصخيرات (17 ديسمبـر 2013). لم تحدْ موسكو عن الرعاية الدولية لـ“الصخيرات” وحكومته، لكنها أرسلت سفنها العسكرية تجول بالقرب من شواطئ ليبيا، واستضافت حاملة الطائرات الروسية “الأميرال كوزنيتسوف” في يناير الماضي هناك اجتماعا لحفتر مع قيادات عسكرية روسية. تجد موسكو في الجنرال حفتر الحليف الطبيعي الذي يمكن التعويل عليه في إطار التحالف الإقليمي ضد الإسلام السياسي في المنطقة، لكنها تستنتج بسهولة تعقد الحالة الليبية وصعوبة مقاربة ليبيا على منوال ما هو معمول به في سوريا. فإذا ما كانت روسيا تستظل هناك بغطاء شرعي مصدره النظام السوري، فإن هذا الأمر مفقود في ليبيا على النحو الذي سيحولها إلى طرف أجنبي داعم لطرف محلي، فيما جدل الشرعية يقسّم الليبيين منذ اندثار نظام الحكم السابق. كما أن موسكو لن تخاطر بانتهاك الحظر الذي يفرضه مجلس الأمن على توريد الأسلحة إلى ليبيا، ناهيك عن أن روسيا لا تملك ترف خوض حرب في ليبيا في نفس الوقت الذي لم تنه فيه حربها في سوريا. ورغم أن فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة تجاهر بحضور عسكري متفاوت الأحجام والمهمات داخل ليبيا برا وبحرا وجوا، إلا أن من يقرأ المشهد على المستوى الاستراتيجي يعتبر أن ذلك نتاجا طبيعيا ميدانيا للواقع الدولي الذي تآلف لإسقاط نظام القذافي في غياب روسيا التي اعتبرت أنها خُدعت آنذاك. ثم إن هذه القوى تعتبر أنها تتحرك وفق قواعد الجغرافيا دفاعا عن مصالحها الجيوستراتيجية المباشرة التي لا يمكن أن تدعي روسيا حقّا منطقيا بها. تملك روسيا أوراقا كثيرة في سوريا، وهي استطاعت من خلال منطق النار، كما من خلال مسلّمة الصمت الإقليمي والدولي، الإمساك بكل مفاعيل الصراع السوري، بما في ذلك مقاربة الفصائل المعارضة المسلحة ومراعـاة غيابها الأخير عـن أستـانة. وتلاحـظ موسكو بسهولة أن “إنجازها” السـوري رفع عنها العـزلة الدولية التي نتجت عن أدائها في أوكرانيا بعد ضم شبه جزيرة القرم. ويـدرك سيّد الكرملين أن إطلالاته الدولية على مسـائل العالم شديدة الصلة بحراكه على المسرح السوري الذي يستثمر به هذه الأيام جيشا من الدبلوماسيين بعد أن استثمر ما يلزم من الجنرالات وقوة النيران. وربما حري التسليم بأن بوتين لن يترجل من القمة التي أوصلته إليها الرافعة السورية بارتكاب زلّات إستراتيجية قد تغرقه في المستنقع الليبي، وأن مسارعة موسكو، وإفراطها في نفي تواجد قواتها بالقرب من ليبيا يمثّل رسالة روسية مضادة هدفها إبلاغ من يهمه الأمر، لا سيما واشنطن، أن أمر ليبيا قد يغري موسكو، لكنه ليس أولوية وجودية يدافع عنها الكرملين، وأن روسيا لن تسمح للضجيج الليبي أن ينتج نشازا يشوّه العزف في سوريا. صحافي وكاتب سياسي لبنانيمحمد قواص
مشاركة :