الأخبار صناعة لا يديرها الصحافيون! كرم نعمة إذا كانت تُهم مثل إنتاج الجهل واختراق العقول والتأثير على صناعة الرأي عند الجمهور، قد أصبحت من فلكلور الصحافة في العصر الرقمي، فإن الصحافة نفسها في حيرة من أمرها مما تقدمه للجمهور، إنها في حقيقة الأمر لا تقدم شيئا أكثر مما يعرفه الناس الذين استولوا على مهامها، ولم تنجح بعد في إعادة ابتكار مهمتها. ما دور الصحافة اليوم؟ الدور التاريخي لم يعد ذا تأثير، والصحيفة التي كان يجد فيها القراء ما يشبع شغفهم بالمعرفة، لم تعد تمتلك مثل هذا التأثير بلا أدنى شك. التلفزيون الذي يحظى بالمساحة الأكبر من اهتمام الجمهور، يوشك أن يكرر نفسه في طبيعة الصناعة النوعية للبرامج، أما دوره الاخباري فليس سوى تكرار وتلخيص لحزمة من أخبار شائعة ومتداولة على مدار النهار في الهواتف. فهل يدفعنا هذا إلى الاعتراف بموت الصناعة الخبرية، أم أن التداول بشأن الأخبار كصناعة بحاجة إلى إعادة استنباط وليس دق المسمار الأخير في نعشها؟ من يتحمل مسؤولية صناعة الخبر إذا كان الجمهور نفسه يصنع ويستهلك الأخبار اليوم؟ أصيب بالحيرة وأنا أتابع نشرة العاشرة مساء يوم الاثنين الماضي في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، لم يكن ثمة شيء ذو أهمية في محتوى النشرة الذي استمر أكثر من أربعين دقيقة. لم تقدم لنا أعظم مؤسسة إخبارية في العالم ما يستحق المعرفة! بل وصل بها الحال إلى الاستعانة بمختصرات تعليمية مع صور فوتوغرافية، وكأنها عادت إلى ممارسة دور الراديو بعد أن أودى المدونون على منصاتهم الخاصة بحياة المشهد الإخباري التلفزيوني على الشاشة. نحن بحاجة إلى الاتفاق حول ماهية الأخبار التي تقدمها وسائل الإعلام اليوم وتستقطب شغف الجمهور، وإلا فإن الوضع سيصبح ميؤوسا منه، لأن الجمهور صار يمتلك كل شيء. إنها حالة ضعف قائمة في بنية اختيار وصناعة الخبر بعد أن تغير سلوك القراء ولم يعد بالإمكان العودة بهم إلى الوراء. من حق صنّاع الأخبار أن يكونوا مميزين، وأن يشمل عملهم جميع التفاصيل وإظهار ما يجعلهم مخلصين للتعريف الأول للخبر الصحافي الذي أطلقه اللورد نورثكليف مؤسس صحيفة ديلي ميل قبل قرن تقريبا، حين اعتبر أن الأخبار معلومات يريد أحدهم منع الناس من معرفتها، وما تبقى هو مجرد إعلانات. لكن مشكلة الصحافة اليوم لا تتلخص في منع الناس من معرفة الأخبار فحسب، بل في قيام الجمهور نفسه بصناعة واستهلاك الأخبار! فيما لجأ الصحافيون إلى منصات هؤلاء الناس لاستخلاص أخبارهم وإعادة طبخها ثانية، في تداخل مربك بين المُرسل والمُستقبل. ومع ذلك، هل هذا التركيز المفاجئ على الأخبار المتداولة على المنصات الاجتماعية والمواقع الشخصية وتطبيقات الهواتف الذكية سيؤدي في الواقع إلى جمهور أكثر استنارة ومعرفة بحقائق الأمور؟ هناك سبب لكون الأخبار لا تبدو ذات أهمية كما يأمل بعضهم. فهي يمكن أن تكون مزعجة وليست ذات أثر على تطوير المعرفة “كما حدث مع نشرة العاشرة مساء في بي بي سي”. والعالم مملوء بالأمور التي تستحق الانتباه، بدءا من تلفزيون الواقع وصولا إلى الكوميديا التلقائية المصورة من الشارع والمنازل وأماكن العمل والمنتزهات، لماذا نهتم بأمر ممل جدا مثل الأخبار؟ في حرب الأفكار يشكل الضجر والتشويش سلاحين قويين، حسب تيم هارفورد، وهو يعالج مثل هذا الأمر الذي وصفه بتخصص حديث العهد، قوي الأثر، في تقرير له بصحيفة فايننشيال تايمز البريطانية. يعود هارفورد إلى دراسة نشرت العام الماضي لثلاثة باحثين حول كيفية قراءة الناس للأخبار عبر الإنترنت “كانت هذه الدراسة في ظاهر الأمر، عبارة عن تحقيق حول مدى استقطاب مصادر الأخبار، بدأ الباحثون ببيانات جمعت عن 1.2 مليون مستخدم للإنترنت، لكن انتهى بهم الأمر إلى تفحص ودراسة خمسين ألف مستخدم فقط. لماذا؟ لأن 4 في المئة فقط من أفراد العينة قرأوا ما يكفي من الأخبار الجادة التي تستحق أن تدخل في نطاق مثل هذه الدراسة. كان المطلوب عشر مقالات واثنتين من مقالات الرأي على مدى ثلاثة أشهر”. ويعلق على ذلك مستعينا باتفاق الكثير من المعلقين الذين يبدون قلقهم “من أننا نعزل أنفسنا في فقاعات أيديولوجية، ونتعرض فقط لآراء الذين لديهم طريقة تفكيرنا نفسها. وهذا الأمر ينطوي على بعض الحقيقة، لكن بالنسبة إلى 96 في المئة من متصفحي الإنترنت، لم تكن الفقاعة التي أثارت قلقهم أمرا ليبراليا أو محافظا، بل كانت: لا تهتم بالأخبار”. سبق وأن وصف باحث سويسري الأخبار بأنها مضللة وحشو فارغ ولا تفسر ذاتها وتسمم البدن وتزيد من الأخطاء الإدراكية وتغزو مساحة التفكير في الدماغ. وأكد الكاتب السويسري رولف دوبلي في كتاب “الأخبار فن التفكير بوضوح: عمق الفكرة وعمق القرار” أن الأخبار كالمخدرات وهي مضيعة للوقت وتجعل قارئها متلقيا سلبيا وتقتل الإبداع في داخله. ونصح دوبلي بالتخلي عن متابعة الأخبار وقراءتها من أجل سعادة الإنسان. بالنسبة إلى الصحافة، كل ذلك بالطبع ليس مؤشرا على أي نوع من الأمل، عندما تصبح الأخبار صناعة تدار من غير الصحافيين، وعندما لا يهتم الناس بالأخبار. كاتب عراقي مقيم في لندن سراب/12
مشاركة :