قرار الإعفاء تعبير عن انزعاج القصر من طول المفاوضات وانحرافها إلى صراعات سياسية جانبية حولت المفاوضات إلى تصفية حسابات أكثر مما غلبت المصلحة العليا للدولة.العرب إدريس الكنبوري [نُشر في 2017/03/18، العدد: 10575، ص(9)] بعد أزيد من خمسة أشهر من تكليف عبدالإله بن كيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي، رئيسا للحكومة عقب الانتخابات التشريعية التي نظمت بالبلاد في السابع من أكتوبر الماضي، قرر العاهل المغربي الملك محمد السادس إعفاءه من المهمة، في انتظار تكليف شخص ثان من نفس الحزب، الذي حاز على الرتبة الأولى في الانتخابات، حسبما جاء في بلاغ للديوان الملكي الأربعاء. ولا شك أن قرار الإعفاء شكل مفاجأة لم تكن متوقعة بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، ذلك أن هذا الأخير ظل طيلة الأشهر الماضية يوجه الرسائل إلى القصر عن طريق الصحافة من خلال التسريبات الجانبية، على هامش المفاوضات التي كان بن كيران يجريها مع الأحزاب السياسية لتشكيل أغلبيته، من دون أن يتجرأ هذا الأخير على العودة إلى الملك ومكاشفته بالفشل في مهمته. ويبدو أن الحزب اختار تلك الاستراتيجية كوسيلة للضغط من جهة على الأحزاب التي كانت طرفا في المشاورات السياسية، ومن جهة ثانية كوسيلة لإقناع القصر باختياراته ودفعه ربما إلى تسهيل مهمته. وفي الوقت الذي التزم فيه القصر الحياد، ظلت مهمة بن كيران مستعصية نتيجة تشبثه ومختلف الأطراف الأخرى بنفس المواقف. فأمين عام حزب العدالة والتنمية رفض منذ البداية الانصياع للشروط التي وضعها حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي ربط مصيره بحزبي الاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في ما كان بن كيران يصر على عدم إشراك الحزب الأخير في المشاورات ويرفض أن يكون جزءا من أغلبيته. وفي الوقت الذي رفض بن كيران إشراك الاتحاد الاشتراكي في الحكومة رفض عزيز أخنوش، رئيس التجمع، بدوره إدخال حزب الاستقلال فيها، وكان ذلك إشارة على أن الطرفين لن يتفاهما. إحدى العقبات التي واجهت بن كيران في مشاوراته هي خطابه السياسي. فالرجل تصرف منذ البداية وكأن نتائج الانتخابات شيك على بياض، ويمكنه أن يشكل الأغلبية في معزل عن الأعراف السياسية السائدة في البلاد، إذ لوحظ أنه في كل مرة كان يذكر بأن حصول حزبه على الأغلبية معناه أن الشعب أراده دون غيره من الأحزاب، فيما نسي بن كيران أن الحياة السياسية في المغرب مبنية على التوافقات لا على المناكفة. كما أنه تعمد إرسال إشارات سلبية إلى القصر ومختلف الأطراف السياسية الأخرى، ملوحا بالعودة إلى المعارضة حينا، وبالدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة حينا آخر، وهي رسائل لم يكن من الطبيعي أن تتقبلها الدولة بصدر رحب، مثلما كانت مزعجة للطبقة السياسية. وفي محاولة لحلحلة الوضع، بعث الملك محمد السادس إلى بن كيران مستشارين له بهدف حثه على تكثيف المفاوضات بهدف تشكيل الأغلبية الحكومية، خصوصا وأن المغرب آنذاك كان أمام اختبار صعب مرتبط بالتحضير لعودته إلى منظمة الاتحاد الأفريقي، بعد غياب استمر أكثر من ثلاثة عقود. وبمناسبة الذكرى 41 للمسيرة الخضراء، التي استرجع بموجبها المغرب سيادته على أقاليمه الجنوبية عام 1975، ألقى الملك خطابا من العاصمة السنغالية داكار، رسم فيه ما يشبه رسم الخطوط العريضة للحكومة المنتظرة، مطالبا بأن تكون حكومة ذات برنامج واضح وأولويات محددة للقضايا الداخلية والخارجية، وعلى رأسها أفريقيا؛ كما انتقد بطريقة مواربة سير المشاورات بين رئيس الحكومة والأحزاب السياسية، حين أكد على ضرورة عدم التعامل مع تشكيل الحكومة باعتباره توزيعا للغنائم؛ بيد أن كل تلك الإشارات لم تفلح في تذليل العقبات أمام تشكيل الأغلبية الجديدة والخروج من النفق. وبالرغم من إزاحة بن كيران عن رئاسة الحكومة، لفشله في تشكيلها بعد خمسة أشهر من المشاورات التي تخللتها خصومات سياسية وتصعيد وتصعيد مضاد، إلا أن الملك أبقى على المنهجية الديمقراطية، كتعبير واضح منه على احترام الإرادة العامة للمغاربة ونتائج الانتخابات، حيث قرر تعيين شخص ثان من نفس الحزب الذي يرأسه بن كيران، بالرغم من أن الدستور يمنحه صلاحيات واسعة بوصفه رئيسا للدولة، وهذا ما أشار إليه بلاغ الديوان الملكي حيث جاء فيه “وقد فضل جلالة الملك أن يتخذ هذا القرار السامي، من ضمن كل الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور، تجسيدا لإرادته الصادقة وحرصه الدائم على توطيد الاختيار الديمقراطي، وصيانة المكـاسب التي حققتها بـلادنا في هذا المجال”. غير أن مهمة البديل المفترض لبن كيران لن تكون سهلة على مستوى تدبير النظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية، فهذا الأخير عاش طويلا على فكرة الشخص الواحد المهيمن، وكان الكثيرون فيه ينظرون إلى بن كيران كزعيم وليس كأمين عام لحزب سياسي؛ كما يعتبره الكثيرون صاحب الفضل في الفوز الانتخابي الذي حققه الحزب خلال الانتخابات الماضية، بالرغم من أدائه الضعيف كقائد للحكومة. ومن الأدوار الجديدة التي تنتظر رئيس الحكومة المقبل أن يغير هذه النظرة تجاه الحزب وأن يجعل هذا الأخير أكثر قربا من العمل المؤسساتي وأكثر بعدا من الشخصنة. والتحدي الأبرز أمام خليفة بن كيران في المرحلة المقبلة، بعد أن يختاره القصر أو يرشحه الحزب بطلب من هذا الأخير، هو تغيير طبيعة المقاربة السياسية التي اعتمدها بن كيران في مشاوراته مع الأحزاب. ومن المرجح أن الشخص الجديد سيغلب المقاربة التشاركية مستفيدا من تجربة بن كيران من ناحية، ومن الرسالة الضمنية التي يتضمنها البلاغ الملكي من ناحية ثانية، إذ يمكن القول بأن قرار الإعفاء تعبير عن انزعاج القصر من طول المفاوضات وانحرافها إلى صراعات سياسية جانبية حولت المفاوضات إلى تصفية حسابات أكثر مما غلبت المصلحة العليا للدولة. لكن هذا لا يعني أن تعيين رئيس حكومة جديد سيكون نهاية المسار، وفي هذه الناحية فإن بلاغ الديوان الملكي قد ترك الباب مفتوحا أمام احتمالات أخرى، ومن جملة هذه الاحتمالات تعيين شخص ثالث في حال فشل الشخص الثاني في تشكيل الحكومة، أو الذهاب إلى الحزب الثاني الفائز في الانتخابات وهو حزب الأصالة والمعاصرة. كاتب مغربيإدريس الكنبوري
مشاركة :