الرسام الراحل ستافرو جبرا انحاز في رسومه إلى معاناة الناس اليومية، وكان صاحب ريشة رشيقة أبدع في تمثيل الأشخاص ووسمهم بما يليق بهم.العرب صلاح تقي الدين [نُشر في 2017/03/18، العدد: 10575، ص(13)]كبر اللبنانيون على خطوطه ورسوماته بيروت- صُدم لبنان وفن الرسم الكاريكاتوري بنبأ رحيل أحد أشهر رسامي الكاريكاتور اللبنانيين المعاصرين ستافرو أدمون جبرا بعد صراع مع المرض. ذلك الأخير الذي شاء أن يبقيه بعيداً عن الإعلام كي لا تمحى من ذاكرة اللبنانيين ممن عرفوه شخصياً أو عرفوا عنه صورته كمحب جامح للحياة، لم تردعه يوماً أخطار أمنية أو قذائف عشوائية وهو الذي كان اختبرها في أوجها. ولد ستافرو في 18 فبراير من العام 1947 في ميناء الحصن إحدى مناطق بيروت المدينة التي عشقها وأحب ناسها وشارعها ولياليها وترجم عشقه لها بالريشة تارة وبعدسة الكاميرا التي لم تفارقه حتى آخر أنفاسه مرات أخرى. وجها لوجه مع نصرالله كان ستافرو أكثر من رسام، قال عن نفسه إنه فنان في “التمسك بالحياة” حتى أنه في أحلك أيام الحرب التي عصفت بلبنان انخرط في الضحكة والسخرية وصنع من الأشياء العادية مادة حياة. انحاز في رسومه إلى الناس وعبّر عن معاناتهم اليومية. وكان صاحب ريشة رشيقة أبدع في تمثيل الأشخاص ووسمهم بما يليق بهم من ملامح وسمات ساعدته في ذلك سرعة بديهة وروح ساخرة ومخيّلة تجيد التقاط اللقطة تلقائياً. كان مصوراً بارعاً عالي الخبرة فناناً في التقاط الصورة وكان في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين يظهر دوماً وقد تدلّت من كتفه كاميرا أو اثنتان حتى لقّب بمصور المشاهير من الفنانين العالميين خصوصاً. وكانت الصور التي يلتقطها على شاطئ مدينة كان الفرنسية خلال مهرجانها السينمائي الشهير طيلة 30 عاما مرجعاً بالنسبة إلى قراء المجلات الفنية المحلية والعالمية. عمل ستافرو في صحف ومجلات محلية ووكالات أنباء عالمية كثيرة بدءاً من عام 1967 مصوراً ورساماً وتنقّل بين مجلة الصياد ولوريان لو جور والزمان وسمر والصفا والمحرر والأنوار والأحرار وصدى لبنان وأوروسكوب وفلاش والشبكة والدبور والدستور والجريدة وسكيتش والحسناء ولوبيروتان وصوت وصورة وماغازين والأسبوع العربي والكفاح العربي والأمل ولوريفاي والدولية ومجلتي وموندانيتيه واستجواب وكرونيك ونداء الوطن ودايلي ستار. كما نشرت رسومه في دير شبيغل وجون أفريك وبانش وأطلس ورلد إكسبرس وليكسبرس وإيكونوميا ولوموند وإل جورناليه وجانفورم ولوكورييه أنترناسيونال ودي فلتفوشيه وذو واشنطن تايمز ووكالات الأنباء أسوشييتد برس ووكالة الأنباء الفرنسية. ويرى كثيرون أن تجربته في الكاريكاتور المتلفز كانت رائدة خلال عمله في محطة التلفزة “سي في إن” خلال نشرة الأخبار المسائية اليومية على مدى سنتين. بالطبع سيكون مكانه نشرة الأخبار فستافرو كان أول مراسل رسمي غطّى حرب لبنان وأحرز لقب شرف كواحد من أفضل مصوري الحرب اللبنانية المعاصرين من قبل المجلة الفرنسية “فوتو” .كثيرون يرون أن تجربته في الكاريكاتور المتلفز كانت رائدة دخلت ريشة ستافرو إلى قلوب اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية وهو من الذين أتقنوا الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، غير أن هذا الرسام المبدع ما كان يضعف إلا أمام القضايا التي يعتبرها “وطنية بامتياز” مثل الإنجازات التي حققتها المؤسسة العسكرية في حربها ضد الإرهاب أو القضايا الإنسانية التي تطال الفقراء والمعوزين من أبناء الوطن وعبّر عن ذلك خير تعبير في رسوماته. وكم هي شهيرة تلك الاضطرابات التي نتجت عن انتقاد أحد البرامج الفكاهية لشخصية أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، غير أنه بالنسبة إلى ستافرو “طالما يتعاطى السيّد في الشؤون السياسية ويبدو إعلامياً في أكثر من مناسبة لن أتوقّف عن رسمه كاريكاتورياً لا هو ولا حتى رجال الدين إلّا حين يتراجعون عن التعاطي في الشؤون السياسية اليومية ولا ينافسون الإعلاميين بإطلالاتهم، بَس يوَقّفوا يتعاطوا بالسياسة ما بِرسمُن”، مؤكّداً احترامَه للعقائد الدينية كافّة وعدمَ الإساءة إلى مقاماتها. أكثر من مئة ألف رسم نال ستافرو الكثير من الجوائز الدولية ومُنح لقب “صديق الأمم المتحدة” خلال تواجده في جنيف واستلم الوشاح الأزرق وفاز “بجائزة العرب الأولى للتفوّق” عن موقعه الإلكتروني وميدالية الرسوم الكاريكاتورية في “مهرجان وسائل الإعلام الثالث” في بيروت عام 2004 وميدالية الرسوم الكاريكاتورية في “مهرجان وسائل الإعلام العربية” الذي أقيم في بيروت. في نوفمبر من العام 2004 استلم ستافرو رسالة من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان وتم اختياره ليكون أحد فناني الأمم المتحدة الـ24 ضمن جمعيّة أو مؤسّسة “كرتون من أجل السلام” التي أسّسها عنان مع بلانتو رسّام الكاريكاتور في صحيفة لوموند.ستافرو كان أول مراسل رسمي غطى حرب لبنان وفي إطار مهرجان “الصحافة والكاريكاتور” كرمت “الرواد العرب” ستافرو لعام 2002 في القاهرة بعدها اشترك في “اللقاء الدولي الخامس للرسوم الصحفية” في كاركفو في فرنسا. في رصيد ستافرو ما يزيد عن 140 ألف كاريكاتور. فأعماله تلك كانت قد عرضت في معرض “سنة الطفل” الذي أقيم في شهر يناير 1980 في دار بلدية باريس ونُشرت صوره في المجلات المحلية وباري ماتش وفوتو وفوف دويتشيه آوسغابي وفوتو ريبورتر. في عام 1983 أسس ستافرو مجلة شهرية سماها “سكوب” ونشر على صفحاتها صوره غير السياسية ليحلّ ضيف شرف على مهرجان الرسوم الكاريكاتورية في إبينال في فرنسا وفي سبعة معارض محلية في بيروت ليؤسس “نقابة مصوري الصحافة اللبنانيين” ويحل رئيسًا فخريًا لها. أسهم ستافرو في إعطاء دروس متقدمة لرسّامي الكاريكاتور في مالطا عام 1998، وشارك في لقاء مجموعة العمل الشرق أوسطية في إسطنبول عام 2000. ولم يكن ليعترف بوجود منافس له في المهنة وهو قال في إحدى مقابلاته الصحافية “لا أحد ينافسني. كنت أتمنى لو أن هناك أحداً ما”، مشدّداً “أيّ مبدع بوسعه منافستي ولكنّ التحدي الأكبر في حساباتي هو سباقي مع نفسي وانتقادي لرسوماتي في اليوم التالي ومدى ملامستها للواقع”. لبنان يودع الخط الجريء حرّية التعبير كانت بالنسبة إليه “قدس الأقداس” فهو لا يعترف بوجود سقف لرسوماته ولا بوجود ما يسمّى “خطوطا حُمرا” يمكن أن تقف عندها ريشتُه. وكاريكاتوره السياسي جدّي لا يساوم حين يتعلّق الأمر بالثوابت الوطنية والحريات ومستعد لخرق المحظور وملامسة الخطر. “ما عندي ممنوع أنا” كان يردّد دائماً، حتى أنه عندما كان يختار الكلمات والمواقف التي يرسمها ما كان يتردّد في توجيه السهام إلى كل من “يتعاطى في الشأن العام”.ستافرو أحرز لقب شرف كواحد من أفضل مصوري الحرب اللبنانية المعاصرين ودّع لبنان وأهل القلم والريشة ستافرو الأربعاء الماضي في مأتم رسمي وشعبي ورأس الصلاة الجنائزية لراحة نفسه متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران إلياس عودة في كنيسة القديس نيقولاوس-الأشرفية في حضور وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد نقولا تويني ممثلاً لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون والنائب عاطف مجدلاني ممثلاً لرئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير الإعلام ملحم الرياشي ممثلاً لرئيس مجلس الوزراء سعد الحريري والنائب نديم الجميل والوزير السابق زياد بارود. وألقى تويني كلمة رئيس الجمهورية الذي منحه وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط، في حين اعتبر الرياشي أن “لبنان والصحافة خسرا ستافرو تلك الريشة النادرة، وفقدان هامات لبنانية في وقت قصير في فن الكاريكاتور مثل ستافرو وملحم عماد وبيار صادق خسارة حقيقية إذ لن يكون هناك مثيل لهم لكن يمكننا أن نترقب اليوم وفي المستقبل ما زرعوه من طاقات في شخصيات مهمة في هذا العالم لأن مدرستهم من الصعب أن تقفل”. وألقت ابنة ستافرو باميلا كلمة العائلة وقالت فيها “لأنك فنان مبدع تعرف كيف تخلق من البسمة والصورة كلاماً من دون أن تقوله. الكل ينتظرك لتقوم وترسم بريشتك نهاية على الأرض وبداية حلوة في السماء، والكل يفتقدك ويفتقد رسائلك وضحكاتك وستبقى حاضراً دائماً معنا رغم غيابك بالجسد”. أبدع ستافرو في اللعب على الكلمات كما في رسومه السياسية وبَدت الحروف مطواعة بين يديه إلى أقصى الدرجات محمّلة بالرسائل المبطّنة وساعده على ذلك إتقانه للغات الأجنبية حتى أن بعض أعماله أضحى خالدا يذكره الكبار والصغار ويذكره السياسيون المعنيون ويحتفظون به. بغياب ستافرو أغمضت العين التي سهرت على تسجيل يوميات لبنان في أفراحه وأحزانه.
مشاركة :