مساء أحد أيام نوفمبر (تشرين الثاني) الباردة عام 2002، قطع أكثر من 10 آلاف اسكوتلندي رحلة استمرت 3 ساعات من غلاسكو إلى شمال غربي إنجلترا لمشاهدة مباراة سلتيك وبلاكبيرن روفرز في إطار بطولة كأس الاتحاد الكرة الأوروبي (يويفا). وعادة ما تأتي هذه المواجهات بين فرق اسكوتلندية وأخرى رفيعة المستوى من المشاركة في الدوري الإنجليزي الممتاز كل 5 سنوات تقريباً، وغالباً ما تنتهي بتذكير الجماهير والمعلقين الإنجليز على حد سواء بأن مجرد الانتماء إلى أغنى بطولة دوري على مستوى العالم لا يعني تلقائياً التمتع بأداء رفيع أو أسلوب مبهر داخل الملعب أو شعور باللياقة. في تلك الليلة، منذ قرابة 15 عاماً، نجح سلتيك في الفوز على بلاكبيرن روفرز 2 – 0، بينما كان ينبغي أن تكون النتيجة 5 - 0. في وقت لاحق وفي إطار البطولة ذاتها، زار سلتيك استاد أنفيلد ونجح في هزيمة ليفربول في وقت كان فيه الأخير متألقاً بالنتيجة ذاتها. قبل المباراة التي جرت على استاد أوود بارك، وصف غرايم سونيس، مدرب بلاكبيرن روفرز، المباراة الأولى في غلاسكو بأنها كانت «رجال في مواجهة صبية»، لأن فريقه لعب أفضل من سلتيك رغم فوز الأخير نهاية الأمر بنتيجة 1 - 0. في المقابل، لم تصدر عن أنفيلد قبل أو بعد مواجهتهم أمام أبطال اسكوتلندا، مثل هذه التعليقات الوقحة، الأمر الذي يرجع إلى أن المدرب بيل شانكلي نجح في أي يضفي على هذا النادي العظيم شعوراً مستمراً باللياقة والاحترام لطالما ميز تعاملاته مع الآخرين. ومنذ مواجهته ليفربول في دور قبل النهائي في كأس أندية أوروبا لأبطال الكؤوس عام 1966، دخل سلتيك في مواجهات أمام فرق إنجليزية في إطار بطولات أوروبية 10 مرات. وجاء سجل النادي في هذه المواجهات التي تألفت من مباراتي ذهاب وإياب على النحو التالي؛ 7 انتصارات و6 خسائر و7 تعادلات. أما أحدث مواجهات سلتيك مع أحد أندية النخبة الإنجليزية، فجاء العام الماضي عندما واجه مانشستر سيتي، وقدم لاعبوه درساً لباقي أندية الدوري الإنجليزي الممتاز حول كيفية التغلب على الطاقة الهائلة للاعبي مانشستر سيتي داخل الملعب وأساليب الضغط الشديد التي يمارسونها والتي جعلت منهم قوة لا تهزم قبل أن يقذف بهم القدر في طريق سلتيك. جدير بالذكر أن النادي الإنجليزي كان يضم في صفوفه خلال هذه المباراة لاعباً واحداً فقط تجاوزت تكلفة ضمه للنادي مجمل قيمة جميع لاعبي النادي الاسكوتلندي. وتزامن مع جميع هذه المباريات موجة من الاستهزاء والسخرية الضمنية في كتابات الصحافيين الإنجليز، بلغت في بعض الحالات حد الازدراء الصريح، وبدا لسان حال الصحف كأنها تتساءل: «هل يتعين علينا حقاً مواجهة هؤلاء المتخلفين؟». ربما كان ذلك نتاجاً لأنهم سئموا ما كرره آباؤهم على مسامعهم من قصص حول الانتصارات الكثيرة التي حققتها أندية إنجليزية عظيمة في ستينات وسبعينات القرن الماضي ضمت مهارات اسكوتلندية في صفوفها عملت بمثابة العمود الفقري لها. وربما لا يزالون يشعرون بالسخط حيال ما تبديه أعداد كبيرة للغاية من المراهقين ال اسكوتلنديين من شماتة عندما يمنى المنتخب الإنجليزي بهزيمة. ومع ذلك، يبقى هذا التوجه من جانب بعض الإنجليز توجهاً مرفوضاً لا يقلل سوى من شأن من ينتهجونه وتسبب في إهدار أجيال من المهارات الإنجليزية. وخلال الأسابيع الأخيرة، تورط كثير من الكتاب والمعلقين الإنجليز في موجة واضحة من الكتابات المتحاملة ضد الكرة الاسكوتلندية في إطار تعليقهم على اقتراب سلتيك من الفوز ببطولة الدوري الاسكوتلندي مجدداً وبفارق شاسع عن أقرب منافسيه على نحو قد يكسبه رقماً قياسياً أوروبياً. وفي هذا الإطار، تساءل أحد الكتاب الإنجليز رفيعي المستوى: «ما الجدوى من كرة القدم الاسكوتلندية؟»، وجاء مجمل المقال رديئاً من حيث جهود البحث التي بذلها الكاتب ليدعم وجهة نظره المتحاملة. واللافت أن هذا المقال اختفى من النسخة الاسكوتلندية من الصحيفة. وفي راديو «توك سبورت»، تحول جيسون كندي، الذي لطالما قدم أداءً متواضعاً على امتداد مسيرته في الدوري الإنجليزي الممتاز، إلى أحدث الأسماء المنضمة لقائمة الشخصيات الإعلامية الساخرة من كرة القدم الاسكوتلندية. ووصف كندي الكرة الاسكوتلندية بأنها «مثيرة للشعور بالخجل»، وألمح إلى أن سلتيك قد يجابه صعوبة كبيرة في الفوز على نادٍ مثل ستوك سيتي. في الواقع، من الطبيعي أن يبدو هذا النادي المنتمي إلى وسط إنجلترا في البداية متفوقاً في مواجهة أي فريق اسكوتلندي، خصوصاً أنه احتل المركز الـ27 عالمياً من حيث القدرة المالية، بفضل الأموال التي يحصل عليها سنوياً من محطة «سكاي». عام 2014 - 2015، بلغت عائدات النادي 100 مليون جنيه إسترليني فقط. أما إذا استمروا في صفوف الدوري الإنجليزي الممتاز، فإن هذا قد يدفع عوائد النادي بدرجة هائلة بفضل اتفاق البث التلفزيوني بقيمة 5.1 مليار جنيه إسترليني المبرم مع «سكاي» و«بي تي». الملاحظ أن الترتيب المالي لستوك سيتي يأتي متقدماً على بنفيكا ومرسيليا وهامبورغ وسلتيك، وجميعها أندية سبق لها نيل كأس البطولات الأوروبية. في المقابل، نجد أن إنجاز ستوك سيتي الكروي الكبير الوحيد كان الفوز بكأس رابطة الأندية الإنجليزية عام 1972 بفضل هدف أحرزه جورج استام، الذي كان حينها أكبر لاعب يحصل على ميدالية في هذه البطولة. ومن بين الأندية الأخرى المنتمية لمكانته ذاتها وست بروميتش ألبيون وساوثهامبتون وكريستال بالاس، وهي أندية تشق طريقها بصعوبة عبر صفوف الدوري الإنجليزي الممتاز، لكن عائداتها وترتيبها العالمي تشوه كثيراً بسبب تدفق مبالغ مالية ضخمة عليها دون استحقاق. وبدلاً من تصويب سهام النقد والسخرية إلى الكرة الاسكوتلندية باعتبارها هدفاً ضعيفاً، والتي تحصل من وراء صفقات البث التلفزيوني على مبالغ تمثل نسبة لا تذكر مما تحصل عليه نظيراتها الإنجليزية، ينبغي لجيسون كندي وأمثاله من الإعلاميين التركيز على المكانة المتراجعة للكرة الإنجليزية على الصعيد الأوروبي رغم الثراء الفاحش الذي تغدقه عليها «سكاي» و«بي تي». جدير بالذكر أن آرسنال هزم قبل أيام بإجمالي 10 - 2 من بايرن ميونيخ الألماني في دور الـ16 من بطولة دوري أبطال أوروبا. في الوقت ذاته، لا تزال ثمة شكوك كبيرة حول قدرة أي من الناديين الإنجليزيين الباقيين بالبطولة - مانشستر سيتي وليستر سيتي - على المضي قدماً في البطولة. ومن يدري، قد يخرج علينا معلقون ألمان وإيطاليون قريباً ليتساءلوا عن جدوى كرة القدم الإنجليزية بخلاف خلق مليونيرات من لاعبي كرة قدم متوسطي المستوى. وفي الوقت الذي تتنافس فيه ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا باستمرار على بطولة كأس العالم أو البطولة الأوروبية، نجد أداء إنجلترا هزيلاً على نحو مؤسف في هذه البطولات على مدار العقود الثلاثة الماضية. ولا ينبغي قط أن يكون هذا هو حال الكرة الإنجليزية، بالنظر إلى أنها على مستوى الأندية تبقى الأكثر تنافسية على مستوى العالم، وإذا كان لديك ثمة شك في ذلك ليس عليك سوى إلقاء نظرة على دوري كرة القدم الإنجليزية. اللافت أن الدرجة الثانية من الدوري فيما وراء حدودنا الجنوبية يضم 8 أندية وصلت إلى نهائي بطولة أوروبية، مما يعادل ما يقرب من عدد نظيراتها داخل الدوري الإنجليزي أو الألماني أو الفرنسي أو الإيطالي. إلا أن هذه الأندية أيضاً تهدر العائدات التي تحصل عليها من وراء صفقات البث التلفزيوني على شراء لاعبين مشكوك في مهاراتهم أو قدرتهم على التأقلم مع التحديات الثقافية والاجتماعية داخل إنجلترا في القرن الـ21. في الوقت ذاته يتركون مواهب إنجليزية واعدة تذبل وتموت بسبب غياب استراتيجية طويلة الأمد لدعم كرة القدم. في المقابل نجد أنه داخل اسكوتلندا، حيث يحصل النادي المتوج بطلاً على 2.8 مليون جنيه إسترليني فقط، لا تزال كرة القدم هناك رغم كل ما تعانيه من صعوبات تنعم بعصر ذهبي؛ ذلك لأن أعداد توافد الجماهير على الملاعب في تزايد وتضاءلت الديون على عاتق الأندية وخلال السنوات الثماني الماضية فازت 9 أندية من خارج سلتيك ورينجرز ببطولات وطنية. في اسكوتلندا، تزدهر كرة القدم الحقيقية. أما في إنجلترا، تأكل كرة القدم نفسها بنفسها.
مشاركة :