كل شيء يتغير بقدرة قادر. فالحُب يصبح كراهية، والأبيض أسود، والأخضر أحمر، وظلام الليل ضياءً لا ينطفي. والذي لا يوافق على ذلك عليه أن يمعن النظر فيما يحدث في العراق هذه الأيام. فالتدخل الأجنبي، والاستعمار، والاحتلال، في تاريخ العراقيين، قوميين ووطنيين، إسلاميين وعلمانيين، كانت بكل أشكالها، وما زالت، وستبقى، مرفوضة، ومقاومتُها بكل الوسائل حق مشروع لا ريب فيه. حتى أن أجيالنا المتعاقبة نشأت وهي تتعلم وتُعلم، وتتغنى وتتباهى، من أيام هولاكو وحتى زمن قاسم سليماني، بأن أعز ثلاثة أشياء لدى الإنسان الوطني الشريف، وأكثرها قداسة واستحقاقا للتضحية من أجلها بالروح والمال والبنين، هي "الكرامة" و"السيادة" و"الاستقلال". إلا في أيامنا الجديدة هذه، في هذه المرحلة العجيبة هذه. فقد تغير المزاج العراقي الوطني والقومي والإسلامي، معا، تغيرا دراماتيكيا عجيبا غيرَ طبيعي، وغير اعتيادي، ومن النقيض إلى النقيض. فبعد أن كانت الملايين تهتف ضد الأجنبي، وتبالغ في كراهيته، وتتظاهر ضد ممثليه ومصالحه، وتحرق أعلامه، وتدوس بأحذيتها على صور قادته وزعمائه، عادت تتوسل به كي يتدخل في شؤونها الداخلية، وبحماس منقطع النظير. والفضل الأكبر للرئيس الأميركي الجديد ترامب. فخطاباته وتهديداته أدارت أعناق عراقيين كثيرين إليه، وجعلتهم يسارعون إلى نقل بنادقهم من الكتف الإيراني الصغير إلى الكتف الأميركي الكبير، فورا، ودون مقدمات. حتى صرنا نرى سياسيين (كبارا) عاشوا أربع عشرة سنة في كنف نوري المالكي، وبركات سفارة الولي الفقيه، من الشيعة والسنة، وبنوا تلالا من الذهب والفضة، وأصبحوا مهمين بعد أن كانوا نكرات، لا يجدون حرجا، ولا عيبا، في أن يخترعوا المبررات للقفز من الزورق الإيراني العراقي المهدد بعواصف ترامب المقبلة، والانتقال إلى جبهة الداعين إلى صداقة ترامب، والتحالف معه، ومشاركته الحرب على داعش، والتصدي لأية دولة مزعزعة لأمن العراق والمنطقة واستقرارها. في الجانب الشيعي صرنا نسمع ونقرأ عن أجنحة جديدة تتمرد على الائتلاف الوطني وحزب الدعوة، وتناصر حيدر العبادي الذاهب إلى ترامب، وهو مشمول بعطفه ورضاه، وموعود بنصره على من يعاديه، وتُجاهر باعتبار تدفق الجنود الأميركان قوة للعراق، وعونا له على أعدائه الداعشيين. أما سنة إيران فقد نفضوا عنهم رداء الكذب والنفاق والتخاذل، وتشجعوا، وصاروا قادة في تجمعات أقامها ومولها معارضون لنوري المالكي وإيران. ومن لا يحسب حساب الغد "يعشْ أبد الدهر بين الحفر". وحتى الذين حملوا البواريد والخناجر والسيوف والمفخخات بوجه "الغزاة" الأميركان، وظلوا زمنا يُنشدون أناشيد المقاومة والفداء، ويمولون كتائب النضال القومي المقدس ضد الاحتلال وجيوشه وعملائه العراقيين، تحولوا، في غمضة عين، إلى مهللين مكبرين، ومبشرين بعودة "ماما" أميركا إلى العراق لتحريره من الاحتلال، وإحقاق الحق، ونشر العدل، وإعمار ما خربته "المقاومة" العراقية السابقة، وحروب داعش والقاعدة، ومليشيات نوري المالكي وهادي العامري وقاسم سليماني. وصاروا يتسابقون على الفوز بمقاولات بناء القواعد والمعسكرات لجيوش ترامب، ونقل معداتها وتخزينها والتستر عليها. وبعد أن كان الرصاص يُطلق على جنودها "المحتلين" "الغزاة" أصبح يطلق فرحا بقدومها، واحتفالا بعودتها الظافرة. ولم تتأخر منابر إعلام الحكومة وفضائيات معارضيها عن تبشيرنا بآخر أخبار الجيوش الأميركية العائدة. "أعلن مسؤولون عراقيون في بغداد أن الولايات المتحدة تخطط لتوسيع وجودها العسكري في العراق إلى نحو 10 ألاف جندي وعسكري سيتولون مهمات دعم قتالية وأخرى استشارية، فضلاً عن الإشراف على برامج إعادة تأهيل المؤسسة العسكرية العراقية". وأضاف الوزير العراقي أن "الأطراف السياسية الكردية والسنية، وكتلاً مسيحية وتركمانية، وأخرى تمثل التيار المدني في العراق، رحبت بهذا الوجود العسكري الأميركي، واعتبرته أفضل الحلول لوقف الهيمنة الإيرانية على العراق، وتوسعها الأخير من خلال استغلالها ورقة تنظيم داعش". من جهته، قال برلماني عراقي، عضو في التحالف الوطني الحاكم، إن "الولايات المتحدة لن تنسحب من العراق بعد انتهاء المعارك مع داعش"، مشيراً إلى أن هذا الأمر "بات مؤكداً". وأشار إلى أن الوجود الأميركي "سيكون لإعادة تأهيل الجيش والشرطة، وتثبيت الاستقرار، ومنع عودة خلايا داعش، والمساعدة في إعمار المدن". وحول موقف التحالف الوطني أكد البرلماني نفسه أن "التحالف يرفض الوجود الأميركي بالتأكيد، لكن بالعودة إلى اتفاقية الشراكة الأميركية-العراقية التي تم على أثرها الانسحاب الأميركي من العراق عام 2010، فإن لواشنطن الحق في ذلك". وهكذا تتبدل القيم والمقاييس. فالظلم الوطني الذي كان عدلا بالأمس، عاد فأصبح ظلما من جديد، وفساد الزعيم الذي كان بالأمس كذبا وتلفيقا أصبح اليوم فسادا لا غبار عليه، ثم صار "عدو الأمس"، والشيطان الأكبر، وزعيم الاستكبار، وصواريخُه المدمرة الحارقة ملائكة َرحمة ٍ وعدالة وهداية ٍ وتحرير وأمان. عجبي. إبراهيم الزبيدي
مشاركة :