إبراهيم الملا (الشارقة) أربعة مصائر حائرة على جسر معلّق، وأربع حيوات تتأرجح بين رجاء وانكسار، وشك ويقين، وحلم وكابوس، إنهم أيضاً شخوص من لحم ودم، يقبضون على الأمل كالقابض على الجمر، تتخطّفهم الجهات، ويكنسون تعبهم في مسالك الريح، ودروب العاصفة، لهم في كل غصة أثر، وفي كل بلوى علامة، تبوح ضمائرهم بما سكتت عنه ألسنتهم، يفوح منهم الندم، وخرائطهم ممزقة، غارقون في ويلاتهم، وتحتهم البحر، مدينة من تيه، ووطن من حريق. هكذا أيضاً يمكننا وصف الخط السردي الذي اعتمدته الكاتبة الكويتية المتميّزة «تغريد الداوود»، وأسس له بصرياً المخرج الإماراتي الذي لم يروّض جنونه على الخشبة بعد «محمد العامري»، في عرض (غصة عبور)، ضمن توليفة زاهية ــ رغم حسّها التراجيدي الداكن ــ مزجت بين النص والصورة، وبين المعنى والمبنى، وبين المضمر والمعلن. عرض «غصة عبور» لمسرح الشارقة الوطني، من العروض المشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان أيام الشارقة المسرحية (الدورة 27) وشاهده جمهور غفير مساء أمس الأول بقصر الثقافة بالشارقة، لتوفره على عناصر وأسماء فنية ودرامية جاذبة، وحقّ لهذا الجمهور أن ينتشي من طغيان فضاء الفرجة في العرض، وأن يصطحب معه وهو خارج القاعة مدارك وانتباهات ونقاشات عديدة وثرية حول مضامين النص والمعالجة الإخراجية الباذخة لمسارات هذا النص، وتحولاته، وطرقه المحتدم على الأبواب العالية، والأسوار الشائكة المحيطة بعالمنا العربي المبتلى بثورات الدم، والهدم، والهجرات، والخريف الأسود. نجح المخرج محمد العامري في التعامل مع الأبعاد الشعرية للنص، وترجمة القصص المأساوية للشخوص إلى مناخات حسّية شائكة، واستطاع من خلال الشخوص المقنّعين أن يخلق ضمائر وظلالاً للشخصيات الرئيسية، وأن يحاكمهم ويواجههم بهذه الأشباح الأقرب إلى الذاكرات المجسّدة، والهواجس المنسية في اللاوعي. كما استغل المخرج الشاشة الخلفية في تأكيد رسائل ومقولات وشفرات العرض، وإقحام جمهور الصالة المنعكسة صورته على الشاشة في أصل الحكاية المريعة للأحداث المحيطة بنا، فالكل معرّض للخطر، وكل آمن اليوم قد لا يتوفّر غداً على أرض تؤويه وبيت يلمّه، فيما يشبه التقاطع المريب مع مصائر أولئك المشردين، الذين جرفهم فيضان الحرب في درب الويلات والعذابات والهجرات القاسية. امتاز عرض (غصة عبور) أيضاً بالدلالات الرمزية الناطقة للإضاءة والمؤثرات السمعية والموسيقية، حيث تم توظيفها لخدمة الشحنة التعبيرية العالية في الحوارات وفي حركة الممثلين وأدائهم المشع في عمق الخشبة وعلى هامشها أيضاً.
مشاركة :