نامت شعوب وسهرت أمم على أحلام الحرية والديمقراطية الأميركية؛ لتستيقظ على الشيطان الأميركي يقض مضاجعهم ويحوّل حُلمهم الجميل إلى أضغاث لن ترى النور في يوم من الأيام. فما تكاد الشعوب الحالمة بالحرية تصحو من سباتها العميق بثورات وهزات شعبية، إلا وتجد الساسة الأميركيين يحاولون إخماد هباتهم والالتفاف على رغباتهم كي تبقى أميركا وحدها هي القوة وهي العلم وهي الحلم صعب المنال أمام بعض شعوب العالم التي تعيش في الأساس خارج العالم. لكن الحلم الأميركي بدأ يتبدد على يد رجل يمارس سلطوية جديدة من نوعها على دولة اعتادت على الديمقراطية لأكثر من قرنين من الزمان، فما يكاد ترامب يلمس بأصابعه لوحة المفاتيح؛ ليغرد على تويتر حتى يصطنع أزمة دبلوماسية لبلاده من لا شيء، وربما يأتي يوم وتمتد أصابعه بالخطأ كالعادة لتضغط على زر السلاح النووي ليسبب كارثة عالمية. العجيب أن هذه السلطوية والميل إلى الاستبداد التي يمارسها الرئيس ترامب لم تأتِ عبر انقلابات عسكرية كما حدث في منطقة الشرق أو حكومات فاشية كالتي سادت أوروبا في أزمان ليست بعيدة، لكنه بدلاً من ذلك، أتت عبر الانتخابات الديمقراطية المختلطة بنقود الملياردير الأميركي أو بالتعبير الأدق، لقد استخدم الديمقراطية كسلم للوصول إلى السلطة. لكن على عكس المؤسسات الحكومية المتعفنة بالفساد في الدول النامية، ما زالت دولة المؤسسات الأميركية تقف بالمرصاد لكل ما يصدر عن ترامب من تصرفات وقرارات، لكن هذا الأمر سيحدث تدريجياً شرخاً في الجدار الحكومي الأميركي الرسمي الذي ظل راسخاً لعدة قرون، وستخرج أميركا في نهاية هذه التجربة بانقسام حقيقي، وليس ديمقراطياً، بين المؤسسات الحكومية ذاتها وبين طوائف الشعب المختلفة التي تمثل قوام التاريخ والنسيج الأميركي. هذا الانقسام المتوقع داخل المجتمع الأميركي هو نفسه الشيء الذي حرصت الولايات المتحدة على غرسه وتنميته بين شعوب العالم الثالث، منذ توليها لدفة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، فعلى مدار قرون عديدة، عملت الولايات المتحدة على غرس بذور الشقاق بين الطوائف المختلفة للشعب الواحد، بل وفتحت حضنها لكل فئة مارقة تسعى للسيطرة على مقدرات الشعوب. هذه البذور الشريرة التي زرعتها الولايات المتحدة نمت وترعرعت بشكل أكثر حجماً في منطقة الشرق الأوسط الخصبة بالطوائف والديانات المختلفة، فلا تزال آثار أقدام الجنود الأميركيين بارزة في العراق العِرقي الأجناس المقسم إلى مذاهب وعقائد يحارب بعضها بعضاً بعد مليون قتيل عراقي خلفتهم الحرب الأميركية لتحقيق الديمقراطية في البلاد. لكن الأمر لا يقف على العراق وحده، بل ما زالت الأيدي الأميركية المتمسحة بالديمقراطية تدعم الاستبداد والسلطوية في الأراضي السورية، بل وامتدت لتغير مسار ثورات الربيع العربي نحو مزيد من الاستبدادية والسلطوية التي تضمن بقاء المصالح الأميركية في هذه المنطقة، وها هي الولايات المتحدة تحتضن زعيم منظمة فتح الله غولن، التي خططت لهدم آخر قباب الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، الخاضعة للنفوذ الأميركي عن بكرة أبيها. هذه الأيدي الأميركية المرتشعة اليوم من احتمالية تحول الديمقراطية الأميركية لشبح الاستبداد والسلطوية تجني آثام عقود من التلاعب بمصائر الشعوب اللاتينية والإفريقية والآسيوية والعربية، فلا تزال الحرب السنية الشيعية التي تغذيها أميركا في منطقة الشرق الأوسط تدين بالولاء لسهام الحرية المزعومة التي أطلقتها الولايات المتحدة في المنطقة. ولم ينسَ ضحايا الانقلابات العسكرية في كل دولة في العام الدور الخفي الذي لعبته الولايات المتحدة لترسيخ الاستبداد والسلطوية. لكن أميركا لم تفكر يوماً أن الاستبداد والسلطوية التي اعتادت أن تدسها لشعوب العالم على أطباق المنح والمساعدات الخارجية الممزوجة بمسحة مزيفة من الديمقراطية، ستهاجم عقر دارها على يد رجل اختارته بنفسها، فما بين عشية وضحاها، قد تشهد أميركا ربيعاً غربياً يزلزل أركان الديمقراطية الأميركية. لقد استغلت أميركا تعدد الفئات والاختلافات في الأمم التي خربتها على مدار قرون طويلة، ونسيت أنها نفسها قائمة على العديد من الأعراق والديانات التي تفوق مثيلاتها من الأمم الأخرى. رويداً رويداً، ستتلف خيوط الحبل الديمقراطي الذي تتعلق به جميع الطوائف والديانات المختلفة التي شكلت النسيج الأميركي طوال تاريخها العتيق، ومع سقوط الحبل ستنهار تدريجياً فكرة الحلم الأميركي التي ظلت تراود الشعوب على مدار عقود ليست بالطويلة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :