الروائي المصري زكي سالم في حوار حول روايته الأخيرة “مقام سيدي العريف”.العرب حنان عقيل [نُشر في 2017/03/23، العدد: 10580، ص(15)]على المبدع أن يوقد نار الفكر (لوحة للفنان بسيم الريس) تعددت تجارب زكي سالم في الكتابات السردية بين القصة والرواية، وقد كتب عنه نجيب محفوظ في تقديمه لمجموعته القصصية “عين العقل” الصادرة عام 1995 “أرى أن ما قرأت لأخي زكي سالم، يدل على أصالة، من ناحية، لأن أغلب قصصه مستوحاة في روحها من الحكم والأمثال والحكايات العربية. إنه من هذه الناحية، نحّى الحداثيين جانبًا، ورجع إلى الأصول بكل شجاعة. ولكن هذا الرجوع، لم يقطعه عن روح العصر. فإلى جانب الأصالة، هو يكتب بأسلوب موجز مركز يصل إلى هدفه من أقصر السبل”. في روايته الصادرة حديثًا عن “المجلس الأعلى للثقافة” في مصر، والموسومة بعنوان “مقام سيدي العريف” ثمة تأملات فلسفية عن الحياة والموت، الروح والجسد، عبَّر عنها الكاتب بسلاسة في نص روائي قصير. تلك التأملات تُشكِل عمودًا رئيسيًا ومتنًا للرواية وليست هامشًا، وهنا يلفت الروائي المصري زكي سالم إلى أن العلاقة الملتبسة بين الروح والجسد موضوعٌ مثير للعقل والقلب معًا، إذ أن لكل منا جسدا له متطلباته المادية، وفي الوقت نفـسه له روح تهفو نحو المطلق، وحين ينجح الإنـسان في التوفيق بين العالمين المختلفين، تتجلى معاني التكامل النفسي، والانسجام الكوني. تساؤلات الراوي هناك تناغم ما بين الروح والجسد حاول الكاتب أن يؤكده في الرواية عبر شخوصها الرئيسية سواء عزيزة أو الراوي أو الشيخة عطية، وربما برز جليًا في الشخصية الأخيرة. وهنا يقول الكاتب “ثمة إشارة مهمة في هذا الموضوع المحوري، وقد لاحظت أنها غابت عن بعض القراء، فما كان يدور في الغرفة المغلقة، بين الشيخة ومن يدخل معها من النساء، هذا الأمر كان يثير تساؤلات الراوي، لكننا لا نعلم على وجه اليقين حقيقة ما كان يحدث في الغرفة المغلقة، فالأمر كله متروك لخيال القارئ، وقدرته على تصور طبيعة العلاقات الإنسانية، سواء بجوانبها المادية، أو الروحية، ومن ثم يتجلى السؤال الفلسفي حول طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، ودور الجنس في تشكيل أو تطوير هذه العلاقة”. تقف الرواية على مظاهر تقديس البسطاء من الناس للأولياء والأضرحة وإيمانهم بمعجزاتهم دون أن تقدم إدانة لهذا الفكر أو نقدًا واضحًا له. ويرى الكاتب أن القارئ غالبا ما يدرك نظرة بسطاء الناس إلى الأولياء الصالحين وكراماتهم وأضرحتهم وغير ذلك، والروائي هنا، لا يُجمّل الواقع ولا يقبّحه، وإنما يجسده بطريقة فنية، بحيث يبرز تناقضاته، ثم يترك للقارئ الحرية في فهم الأمور على حقيقتها. وإذا انتقلنا إلى الجوانب الروحية في هذه الرواية، فستتجلى لنا حقائق كثيرة، في سياق العمل الأدبي. في الرواية ملامح من الصوفية على لسان شخوص العمل الروائي، فضلًا عن أجواء الزار وغيره.. يقول سالم “السؤال عن خلفية الروائي الثقافية، وخبرته في هذا المجال الغامض، يدعونا إلى القول إن الكاتب أستاذ للفلسـفة الإسلامية، وتخصصه الدقيق هو التصوف، بيد أن الدراسة العلمية، والبحوث الأكاديمية للتصوف، لا تغني وحدها، دون أن يصاحبها ذوق خاص، وملكات شخصية، وتجارب روحية، فكما يقول الصوفية: من ذاق عرف”.زكي سالم: الأعمال الإبداعية الخالدة أعمال فلسفية بشكل أو بآخر تتناص الرواية مع سورة “يوسف” في القرآن الكريم منذ بدايتها وحتى النهاية، هنا يوضح سالم أن “التناص في ثنايا هذه الرواية مع سورة ‘يوسف‘ يعد ضرورةً فنية، وملمحًا للتجليات الروحية، إذ يتيح للقارئ أن يتأمل جوانب التشابه والاختلاف بين قصتين مختلفتين، إحداهما حديثة، والأخرى قديمة، كما يستحث العقل على إعادة النظر في أعماق النص القرآني، ودلالاته البعيدة”. ويستطرد الكاتب “هذا يقودنا إلى الحديث عن دور الفكر الفلسفي في الأعمال الأدبية، فمن وجهة نظري، أن الفلسفة تثري الأدب، وتضيف له أبعادا أكثر عمقًا وجمالًا، كما تثير في المتلقي تساؤلات تبقى بداخله بعد استمتاعه بالعمل الفني، ومن ثم فكل الأعمال الإبداعية الخالدة في تاريخ البشرية، تُعد أعمالًا فلسفية بشكل أو بآخر”. محفزات الإبداع يُبيّن سالم أن هناك أمورًا كثيرة، وقضايا متنوعة ومتباينة، تُشكِّل دوافعَ ثرية للكتابة، يمكن ضمها جميعا تحت مجموعتين كبيرتين من الدوافع الشخصية والمحفزات الإبداعية، الأولى تختص بشؤون الإنسان الذاتية، من تساؤلات وجودية، أو أحلام فردية، أو مخاوف شخصية، والمجموعة الثانية تنتمي إلى مشكلات الوجود العام سـواء على مستوى ضيق، أو صغير جداً، كالبيئة المحدودة المحيطة بالمبدع. ويتابع “لعل القارئ يعلم أن الكاتب في بلادنا لا ينتظر الكثير من وراء الكتابة، وذلك لأسباب عديدة، مرتبطة بطريقة تعامل السلطة السياسية والمجتمعية مع المبدعين من جهة، ومستوانا التعليمي والثقافي والحضاري من جهة أخرى. وعلى المستوى الشخصي تعلمت من أستاذي نجيب محفوظ أن الكتابة قيمة عليا في ذاتها، وعلى المبدع الحقيقي أن يقول كلمته بصدق وحرفية، ولا يتعلق بالجوائز التي قد تأتي، وقد لا تأتي ولا يطاردها. فكل مبدع يسعى لوصول إبداعه إلى المتلقي، سيسعده بالتأكيد تقدير القراء له”. ويرى سالم أن الكاتب الحقيقي ضمير لأمته، ومُعبِّر عن روح عصره، إذ يعيد صياغة القيم الثقافية، ويبلور فلسـفته الشخصية، ومن ثم ينير الطريق للآخرين، وينشر الوعي الصحيح في مجتمعه، ويدافع عن القيم الأصيلة كالحق والعدل والخير والجمال. أو هكذا يجب أن يكون دور المبدع على المستوى السياسي والاجتماعي والإنساني، فثمة رسالة مهمة أو رسائل متعددة مضمرة في ثنايا العمل الأدبي. ويضيف “الكتابة الحقيقية تثري الأرواح الباحثة عن الطريق المستقيم، وتنير العقول الساعية في سـبيل المعرفة، وتطمئن النفوس الهائمة في الملكوت، وتريح القلوب المثقلة بأعباء الحياة الدنيا. هكذا تكون الكتابة الإبداعية الجديرة بالبقاء عبر الأجيال والثقافات والعصور، وهكذا هي إبداعات أستاذي الحبيب نجيب محفوظ”. يلفت ضيفنا إلى أن هناك مستويين في مسألة الخطوط الحمراء أثناء الكتابة، الأول يتعلق بالعقل الواعي للكاتب، والذي قد يُدرك صعوبة ما يكتبه، أو عدم الترحيب به من جهة السلطة الحاكمة، أو بالنسبة إلى المجتمع الذي يعيش فيه، أو حتى بعض القراء الذين لا يعجبهم ما يكتبه، لكن المستوى الثاني، وهو الأهم، ينبع من لاوعي الكاتب نفسه، ومن ثم يمنع خياله من الانطلاق إلى آفاق أرحب، مشددا على ضرورة أن يتحرر المبدع من كل القيود -قدرَ المستطاع- حتى يطلق ملكاته الإبداعية لتعبر عن ذاتها بعفوية وصدق.
مشاركة :