عبدالعزيز الرفاعي.. قفل القصيدة ومفتاحها (2-2)

  • 3/24/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

حسين بافقيه (*) «لمْ تكن قصيدة الرفاعي (في المديح النبوي) مراهنة على النِّيَّة، إنَّما كانت المراهنة على الصَّنْعة والفنّ، ونحن إزاء شاعر كلُّ غايته أن يغالِب تراثًا عظيمًا في المدائح النَّبويَّة، فعسَى أنْ تَثْبت مِدْحته في وجْه ذلك التُّراث الطَّاغي». والحقّ أنَّني أُحِبّ مَطْلَع هذه المِدْحة، بلْ إنَّني أُحِبّ ترديده كثيرًا، وأَجِد فيه يُسْر الفنّ وسُهولته وعُلُوقه بالنَّفْس، ولعلَّه أَشْعَرَنِي بمشكلة الشَّاعر، أَبَدَ الدَّهر، أن يضمن لشِعْره الخلود والبقاء، وأن يَثْبُت شِعْره على وجْه الدَّهر، ولعلَّه، وَعَى ذلك، ولعلَّه لمْ يَعِه، استعاد وقوف شعراء الجاهليَّة، وقدْ كان الفنّ طِفْلًا، تُجاه مشكلة الإبداع، فالشُّعراء لمْ يتركوا لعنترة «مِنْ مُتَرَدَّمِ»، ولمْ يَكَدْ يمضي غير جيل بعدهم، حتَّى صُعِقَ كعب بن زهير فقال: مَا أرَانَا نَقُولُ إِلَّا مُعَارًا أَوْ مُعَادًا مِنْ قَوْلِنَا مَكْرُورَا مشكلة الإبداع ساغ، إذنْ، أن يفتتح عبدالعزيز الرِّفاعيّ قصيدته العَصِيَّة بمشكلة «الإبداع»، وأنْ تكون كلمة «المُبْدِعُونَ» هي مبتدأ القصيدة النَّحْوِيّ والشِّعْرِيّ، وأنْ يكون بيت هذه القصيدة هو مَطْلعها، فمشكلة الرِّفاعيّ هو المَطْلَع، و«كُلُّ الصَّيْد في جَوْف الفرَا»، وتَتِمُّ الجُملة، نَحْوًا، بخبرها «قَطَفُوا الرَّوائِع»، ويَتِمّ المعنَى الَّذي أعْيَا الشَّاعر بقوله «لَمْ أَجِدْ لِي مَطْلَعَا»، وما سائر الأبيات، وبخاصَّةٍ الأربعة عشر الَّتي قَفَتِ البيت الأوَّل، إلَّا تفصيل لمفتتح القصيدة ومَطْلعها. يُكَرِّر عبدالقاهر الجرجانيّ في أسراره ودلائله كلمة أثيرة لديه، وهي «السِّحْر»، يسوقها في معرض تفسيره معنَى الجمال فيما تَجَرَّد له، وأنا أُحِسّ في مَطْلَع القصيدة «سِحْرًا»، وأحاول أنْ أقف عليه، وذلك أنَّ البيت يسيرٌ جِدًّا، ليس فيه كبير فنٍّ، إذا ما رُمْنا الكشف عنِ استعارة غريبة، أوْ تشبيه نادر. ليس فيه مِنْ أقاويل البلاغيين ونَقَدَة الشِّعْر ما يَدُلّ على إخلال بمألوف اللُّغة، ممَّا يحلو للنُّقَّاد المحدثين اللَّهج به، غير أنِّي، وعلى نَهْج الشَّيخ عبدالقاهر، أَجِدُ السِّحْر في تلك الجملة الَّتي اعترضتْ بين المبتدأ «المبدعون» والجملة الخبريَّة «قَطَفُوا الرَّوائِعَ»، وأعني بها: «وَكَيْفَ لِي أَنْ أُبْدِعَا»، والنَّحْو لمْ يُدْرِكْ منها إلَّا أنَّها جملة اعتراضيَّة لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب، لكنَّها، في هذا البيت، لها مَحَلٌّ مِنَ الشِّعْر، ورُبَّما كان سِحْر البيت قارًّا في أثنائها، وهلْ مِنْ مَعْنًى شِعْرِيٍّ يُصِيب الشَّاعر بالخوف والفَزَع، قبل أنْ يَشْرَع في قصيدته، يَفُوق إحساسه بأنَّ ما سينْظِمه قدْ سبقه إليه الشُّعراء «المبدعون» الَّذين هُدُوا، قبله، إلى كلّ مَعْنًى، وخشية أنْ لا يقول شيئًا ذا بال، ويُطَوِّق ذلك الخوف بما يُشْبِه العجز، بلْ هو العجز نَفْسه، يُجَلِّله استفهامٌ كلُّ ما فيه مُنْبِئٌ بأنْ لا فلاح له في هذا الدَّرب، فالمبدعون قَطَفُوا الرَّوائع، وهو، بَعْدُ، لمْ يَخُضِ السِّبَاق، ولمْ يَجِدْ له مَطْلَعًا، دَعْ عنك أن يحلم بقصيدة! اقتناص المطلع وأنا أقرأ القصيدة، وفي الأصحّ وأنا أقرأ مَطْلعها وأُرَدِّده تارَةً بَعْدَ أُخْرَى، أستعيد عبارة «على تَخَيُّرٍ مِنْ لذيذ الوزن»، الَّتي هي عُنْصُرٌ مِنْ عناصر عمود الشِّعْر في نَقْد العرب، فالقصيدة، أوِ البيت، تُخُيِّرَ لها لذيذ الوزن، وسِيقتْ لها قافية «حتَّى لا منافرة بينهما»، وطَغَى الوزن اللَّذيذ والقافية المقتضاة، فلا أكاد أنظر في أعطاف القصيدة لشِدَّة أَسْر الوزن وعُلُوق القافية، بلْ إنَّني لا أكاد أستعيد مِنَ القصيدة إلَّا مَطْلَعها، ففيه الغاية، وفيه الكفاية. أَتَمَّ عبدالعزيز الرِّفاعيّ قصيدته في ثمانية عشر يومًا، وليس ببعيدٍ أنَّ الشَّاعر الَّذي أعلن، منذ قديمٍ، رغبته في أن يَنْظِم قصيدة نبويَّة، ظلَّ يُشارفها مُدَّة طويلة مِنَ الزَّمان، وأنَّه كان يتجنَّب المَطْلَعَ المُعَادَ المكرور، حتَّى استقام له هذا المَطْلَع، فانصرفتْ قُدْرته الشِّعْرِيَّة كلُّها إليه، وإلى أبيات التصقتْ به، وقدْ يكون مِنَ الجائز أنَّ الشَّاعر صَرَفَه المَطْلَع عنْ سائر الأبيات الاثنين والأربعين الَّتي هي كلّ القصيدة، فخرج عمَّا تَجَرَّد له؛ أن يقول شِعْرًا لا يشبه شِعْر الآخرين، فترك للشُّعراء «المبدعين» قَبْلَه أن يقطفوا الرَّوائع، أمَّا هو فقد اكتفَى بذلك المَطْلَع البديع. وذلك أنَّ القصيدة، بعد أنِ استوفتِ المكابَدة الشِّعْرِيَّة، لمْ تَخْرُجْ في سائر أبياتها عن الطَّريق الَّذي عَبَّدَه المادحون، ولا المعجم الشِّعْرِيّ الَّذي اصطفاه الشُّعراء، ولا الصُّور، ولا الأخْيِلَة، ولا المعاني، ولستُ أستبعد أنَّ شاعرنا قدِ استهلك طاقته في اقتناص المَطْلَع، ثُمَّ لمْ يلبثْ أنْ سَلَكَ طريقًا كان قدْ سُلِكَ، ورُبَّما أراد الشَّاعر لقصيدته أنْ تطول قليلًا أوْ كثيرًا، فأعيتْه قُدْرته فأنشأ يُبْدِئ ويُعِيد فيما بَدَأَهُ الشُّعراء قَبْلَه وأعادوا، وليته اكتفَى بقطعةٍ مِنَ الأبيات فيها مِنَ الشِّعْر ما يُغْنيه عنِ التَّطويل والتَّمطيط وَالشِّعْرُ لَمْحٌ تَكْفِي إِشَارَتُهُ وَلَيْسَ بِالهَذْرِ طُوِّلَتْ خُطَبُهْ طريق آمن نَسِيَ عبدالعزيز الرِّفاعيّ، وقدْ تقادَمَتِ الأيَّام بقصيدته، وغالَها بعض ما حاد بها عنْ سَمْتها ذلك المشرق الوضيء، وإذا بالقصيدة الَّتي بدأتْ ساذَجةً سهلةً يسيرةً، تَلُوذ بالطَّريق الآمِن الَّذي يستقيد للتَّقاليد الشِّعْرِيَّة، فإذا بِنَا نقرأ فيها ما قرأْناه، مِنْ قَبْلُ، نقرأ عنِ الرُّسل والملائك وجبريل الأمين والسَّبْع الطِّبَاق، نَظْهر على ذلك وغيره، فيذْوِي، كلَّما تأمَّلْنا في القصيدة، الوزن اللَّذيذ المتخيَّر والقافية الَّتي ليس فيها منافَرة، ويَغيب «اللَّمْح» ويحضر «الهَذْرُ»، فنقرأ مِثل هذا البيت: مِنْ كُلِّ صَاحِبِ آيَةٍ، لَكَ آيَةٌ حَبَّاتُ تَاجِكَ يَأْتَلِقْنَ لَوَامِعَا الوقوع في التكلف وسَرْعان ما أستذكر أنَّ الرِّفاعيّ نَظَمَ قصيدته في ثمانية عشر يومًا، فخرج عنِ السُهُولة واليُسْر إلى التَّكلُّف، ومِنْ آثار هذا التَّكلُّف أنْ جَعَل للنَّبِيّ- صلَّى الله عليه وسلَّم – تاجًا له حبَّات يأْتلِقْن لَوَامِعَ! وكلمة «التَّاج» ليستْ مِنْ شَرْط صاحِب الرِّسالة، إنَّما شَرْطه أنَّه نَبِيٌّ يُوْحَى إليه، وأنَّه ما جاء ليقيم مُلْكًا ولا سُلْطَانًا، إنَّما بعثه الله ليُقِيم في النَّاس العدْل والقِسْط، وكلمات اللُّغة مشدودٌ بعضها ببعض بنِسْغ يَجذبها إلى ملكوت الشِّعْر ورحابه، وأحسب أنَّ شاعرًا مِثْل عبدالعزيز الرِّفاعيّ قدْ مَرَّ به أنَّ عبدالملك بن مروان، وهو ملكٌ وسُلْطان، ما استساغ أن يصفه عبيدالله بن قيس الرُّقَيَّات بالتَّاج والمُلْك حين قال: يَأْتَلِقُ التَّاجُ فَوْقَ مَفْرِقِهِ عَلَى جَبِينٍ كَأَنَّهُ الذَّهَبُ واستكثر عليه أن يُشَبِّهه الشَّاعر بملوك العَجَم، في حِين أنَّ ابن قيس الرُّقَيَّات، وهو الشَّاعر البارع، جعل مصعب بن الزُّبَيْر، وهو خَصْم عبدالملك، شِهَابًا مِنَ الله تَجَلَّتْ عنْ وجْهه الظَّلْماءُ! ليتَ عبدالعزيز الرِّفاعيّ اكتفَى بمكابدته لقصيدة تلتمس لها موضِعًا في مقام النُّبُوَّة الأسمَى، وليته اكتفَى بأنْ تكون قصيدته «لَمْحًا». ليتَ..! ولكنْ.. إنَّ لَوًّا وإِنَّ لَيْتًا عَنَاءُ! (*كاتب سعودي)

مشاركة :