من الصعب الآن لأي متابع أن يقطع باليقين إلى أي اتجاه سوف تذهب السياسة الخارجية الأميركية في الأشهر القليلة المقبلة. كان بعض الدبلوماسيين العرب يشتكون لأول مرة، من أنهم يخرجون مشوشين بعد لقاءاتهم مع الرئيس السابق باراك أوباما طوال 8 سنوات من حكمه، فقد كانت رسائله لهم غير واضحة وفي بعض الأوقات متناقضة، الأمر الذي لم يتعودوا عليه لفترة، بعد عهود طويلة من التعامل مع الإدارات الأميركية المختلفة بشكل سلس. اليوم بالتأكيد أولئك الدبلوماسيون أكثر تشوشاً وحيرة من قبل. العدد الأخير من مجلة «فورين آفيرز» (مارس/ آذار – أبريل/ نيسان 2017)، خصصت جل مقالاتها في هذا العدد إلى ما سمته «زمن ترمب»، واستعرضت الاحتمالات التي سوف تذهب إليها الإدارة الأميركية في شؤون كثيرة، منها الاقتصاد والمال والصحة والتشغيل والإدارة العامة، والضمان الاجتماعي وغيرها من الملفات. ما يهم القارئ العربي أكثر، ما سوف تتخذه هذه الإدارة من سياسات في الشؤون الخارجية، وخاصة تجاه الشرق الأوسط، الذي يمر بمنعطف من الأزمات والتوترات؛ وذاك أمر سوف يؤثر كثيراً على أحداث المنطقة ومستقبل استقرارها. يقول أحد المقالات في ذلك العدد إن السياسة الخارجية الأميركية منذ 70 عاماً، أي منذ عهد فرانكلين روزفلت الذي أشرك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، لم تطرح للنقاش العام كما هي اليوم، فقد كانت تسير منذ زمن بين تيارين تاريخيين متقاربين؛ «الهاميلتونيين»، نسبة إلى ألكسندر هاميلتون، وهو واحد من الرجال المؤسسين للولايات المتحدة، والأكثر تأثيراً في السياسة المالية لإدارة جورج واشنطن الرئيس الأول للولايات المتحدة، الذي أسس البنك المركزي، وواحد من اثنين فقط من خارج الرؤساء توضع صورته على أوراق العملة. وبين التيار الثاني (الويلسونيين) نسبة إلى الرئيس توماس وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة الثامن والعشرين، الذي أشرك أميركا في الحرب العظمى الأولى، وصاحب النقاط الـ14 المشهورة لتحقيق تقرير المصير للشعوب. «الهاميلتونيون» سعوا إلى أهمية تحقيق نظام ليبرالي عالمي تحقق به مصالح الولايات المتحدة، وأن على الولايات المتحدة القوة الناهضة أن تأخذ مكان بريطانيا العظمى للعمل كبوصلة للنظام العالمي وتحقيق المصالح الأميركية الاقتصادية. لم يبتعد الويلسونيون عن ذلك المسار، ولكن أضافوا إليه غلافاً من المبادئ التي لها علاقة بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية، واقتنعوا بأن أكثر مشكلات العالم ناتجة من الدول المحكومة بالفساد والحكم المطلق. لم يكن هناك فرق كبير بين المدرستين كما يكتب المحلل في «فورين آفيرز»، كان الفرق في التكتيك وليس الاستراتيجية، طبعاً أضيف إلى تلك الأفكار ما خرجت به الولايات المتحدة من خبرة منذ حروب فيتنام حتى العراق وأفغانستان، بأن التدخل المباشر في مشكلات العالم مكلف لاقتصادها، فقررت أن تستخدم ما يمكن أن يسمى (في عهد باراك أوباما) بـ«القوة الناعمة»؛ قوة الضغط الدبلوماسي وخيارات الإقناع. قطاع واسع من الشعب الأميركي لم يعد يهضم التدخل الخارجي النشط؛ الأمر الذي لم يلتقطه كثير من السياسيين التقليديين أو تعاملوا معه بقدر من اللامبالاة، ولكن الرئيس دونالد ترمب التقط ذلك التوجه الشعبوي واستخدمه بأقصى ما يمكن من درجات الاستخدام، غير عابئ حتى بالشكليات الخارجية والمحسنات اللفظية التي اعتمدت طوال سنوات في السياسة الخارجية الأميركية. لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف ستكون سياسة الإدارة الحالية لترجمة تلك الأفكار الشعبوية، أو كيف سوف تتغير تلك الأفكار نتيجة ما سوف تواجهه الإدارة من صد أو رفض أو ضغوط أو حتى معارضة من الداخل ومن الخارج. ولكن الجميع متيقن بأنها تحمل مخاطر؛ وهي تغييب المبادئ، وتقديم وإعلاء الفائدة المباشرة؛ مما يؤدي إلى اهتزاز الثقة وعدم اليقين. نحن نعرف أن هناك توافقاً بين كثيرين بأن الولايات المتحدة تواجه أصعب مرحلة في السياسة الخارجية، قال ذلك جو بايدن نائب الرئيس الأميركي السابق أوباما في مقال شهير بهذا الخصوص وهو يودع السلطة. كما نعرف اليوم التعقيدات التي تواجه الخطوات السريعة وغير المنضبطة للإدارة الجديدة. على سبيل المثال نجد مراوحة تجاه حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في الحلف الأطلسي وأوروبا، أو في اتفاق إعادة التفاوض على «النافتا»، (مع كندا والمكسيك)، أو حتى بناء وتكلفة الجدار العازل مع الأخيرة! مما جعل رئيستي السلطة البريطانية والألمانية تسارعان إلى واشنطن للاستكشاف والتيقن من الآتي في التوجه السياسي غير التقليدي على الأقل والشعوبي، ولم يخرج الحلفاء بيقين حتى الآن، غير وعود غير محددة وآمال غير مطمئنة! واكتشاف «الاقتصاد في الحقائق» حتى لا يقال «الكذب» في عرض الحقائق المعروفة، كمثل مساهمة ألمانيا في حلف الناتو التي أكد وزير ماليتها، بعد عودة المستشارة، أنهم يدفعون كل ما استحق عليهم. الشعوبية لإثارة المشاعر العامة سلاح خطير قد يؤذي صاحبه في نهاية المطاف. انتخاب ترمب، ثم سياساته ضد الهجرة عن طريق إغلاق الباب كلياً أمام مواطني عدد من الدول، وحربه الداخلية ضد الإدارة السابقة، أطلق موجة من التوجه إلى اليمين الشعوبي في أوروبا، وأيقظ تلك الأفكار التي أدت إلى حروب ومآسٍ في تلك القارة، وهي الأفكار الشعبوية الحاملة لكره الآخر، مهاجرين وعقائد. وعلى الرغم من الإشارات المطمئنة في الشرق الأوسط، حتى الآن، فإن خطوة واحدة مثل نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، قد تفجر مكظوماً شعبياً يتعافى الآن فقط من صدمات الحروب والإرهاب، وتقدم بذلك هدية سياسية إلى النظام الإيراني. بعيداً عن الملفات الأخرى التي تواجه الإدارة الأميركية الجديدة في الداخل، فإن ما تطلقه من تداعيات في الخارج يثير القلق للأصدقاء والحلفاء على وجه التحديد. إذا كانت الشعبوية تعني الانتقال من العولمة إلى الوطنية، فإن الفكرة في المطلق مضادة للتاريخ. فالانفصال عن العالم المحيط مع تقدم الاتصال غير ممكن، كما هو من غير الممكن فصل الموج عن الشاطئ، كلاهما متلازم، في علاقة الأول بالثاني. وإذا كان المراد من الشعبوية تكون دولة «قوية» للأميركيين فقط، فإن الفكرة بجانب أنها طوباوية فهي تؤسس إلى انعزالية لم تعد ممكنة في عالم القرن الواحد والعشرين. فحتى الظواهر الطبيعية أصبح معروفاً أنها قابلة لتجاوز الحدود، وتحتاج إلى مواجهتها تعاون أكثر من دولة! وإذا أصبحت مهمة الولايات المتحدة ليس كما فعل الآباء من الهاميلتونيين والويلسونيين تغيير العالم لتصبح الولايات المتحدة قوية وآمنة، بل إسعاد المواطنين الأميركيين ورفاهيتهم بصرف النظر عن مصالح الآخرين، كما تسعى في الظاهر الإدارة الجديدة، فإن ذلك يعني تحول السياسة الخارجية وأدواتها من (دفع التكاليف) المعقولة في استتباب النظام العالمي، إلى «تحصيل الفوائد» دون حتى رأسمال قيمي؛ أي الانتقال مما يراه البعض بأنها سياسة مكلفة مادياً، إلى سياسة مجزية مادياً. نصبح أمام تغير غير مسبوق في العلاقات الدولية، يهدد بشكل مباشر كل القواعد التي بنيت عليها العلاقات الدولية لقرون منذ صلح «وستفاليا» في وسط القرن السابع عشر! أقل ما يقال عن السياسة الخارجية للإدارة الأميركية اليوم إنها غير واضحة المعالم، وتنبئ بأن تتحول الولايات المتحدة من المبادئ الإنسانية العامة إلى مبادئ الربح والخسارة المالية البحتة. في كثير من الأوقات الخسارة المالية تعني الربح في مكان آخر، وهو رفاه الإنسانية وأمنها! آخر الكلام: السؤال الأكثر أهمية الذي يجب أن تشترك العقول في السعي للإجابة عنه هو: هل ما نشاهده من تداعيات في المشهد الأميركي هو استثناء مؤقت، أم هو إكمال لتوجه غير مقاوم وسارٍ منذ زمن إلى ما يمكن أن يعرف بانتهاء العصر الأميركي؟!
مشاركة :