عاهدت نفسي من البارحة أن أستيقظ باكراً؛ كي أتابع الحدث الجلل الذي قلما نرى مثله في بلادنا النامية التي ترفع شعاراً واضحاً هو أن السلطة أبداً لا تخطئ، وإن أخطأت لا يحق للشعب أن يحاسبها، ولن تعتذر هي على ما فعلته بالشعب؛ لذا أنا فعلاً أمام يوم عظيم غداً؛ حيث تُعقد محاكمة القرن، حيث يوضع الرئيس الدكتاتوري الأخير -كما كنت أعتقد وقتها- في القفص؛ كي يحاسب على ما فعل بالبلاد والعباد. مبارك يساوي ثلاثين سنة من الفساد والقمع والدكتاتورية ذات الوجه الباسم، فهناك من يقتلك وهو غاضب، ويظهر مشاعر الكره على وجهه، وهناك من يقتلك بكل وداعة وابتسامة رقيقة تشع من وجهه، والأخير هو نظام مبارك الذي كان يشنق بحبال من حرير، ولكن في النهاية أنت مشنوق وتارك الحرير لهم. في هذا اليوم استيقظت باكراً كما عاهدت نفسي قبلها، وجلست أنا وأسرتي نتابع التلفزيون المصري؛ كي نرى حاكماً عربياً يُحاسب على ما فعله بالشعب، نعم إنها أولى خطوات الديمقراطية، وفعلاً نحن على أعتاب حياة مدنية حقيقية ودولة قانون ليس فيها خطوط حمراء، ولا يعلو صوت فوق صوت القانون، هكذا كانت الأفكار تدور في عقلي الصغير غير المستوعب لما نحن فيه اليوم. ها هو مبارك في القفص، محمد حسني السيد مبارك هكذا قالها القاضي بصوت واثق وقوي، كأنه استمده من حناجر الشباب في ميدان التحرير التي أعطته الحق في المحاسبة، والحق في إعادة الحقوق إلى أصحابها، والقصاص من الجاني كي يطمئن قلب المجني عليه، كي تجف دموع أم الشهيد التي فقدت قلبها، ولن يريحها شيء، ولكن القصاص سوف يضمد الجرح الفتوح، يرد مبارك بصوت كأني لم أسمعه من قبل سوى في نبرة الاستعطاف في الخطاب الأخير؛ ليقول: أفندم أنا موجود، نعم مبارك داخل القفص. إذا قلت لي وقتها إن مبارك سوف يأخذ براءة هو وكل من معه، أعتقد أنك لم تكن لتنجو من نظرة الاحتقار ومجموعة من الألفاظ المتهكمة على سذاجتك، مثل: القضاء المصري سوف يعدم هذا الطاغية وأراهنك، وإن تمت الرأفة بحالته سوف يأخذ سجناً مدى الحياة، أما الشلة الفاسدة من الوزراء ومن والاهم فهم حتماً إلى البدلة الحمراء، فلا يجوز أن نقوم بالثورة العظيمة ويسقط فيها آلاف الشهداء والجرحى، وفي النهاية الجميع يأخذ براءة.. هل أنت أحمق إلى هذه الدرجة؟! ولكن في الحقيقة أنا من كان الأحمق، ولم أصدق القلة القليلة التي أكدت أن مبارك وأعوانه لن يعاقبوا إلا بسلطة مدنية في الوقت الحالي قبل أن تطمس الأدلة وتختفي الشواهد، وفي هذه الفترة كان المجلس العسكري الذي ولّاه مبارك هو من يقود الرعية الثائرة التي لولاها لما حدثت انتخابات رئاسية وظل طنطاوي في سدة الحكم حتى الآن، ولكن لا يأتي عسكر بعد ثورة مدنية حقيقية. "يا مبارك يا طيار جبت منين سبعين مليار"، لن يحاسب مبارك على قتل المتظاهرين فقط، وإنما سيحاسب على الفساد الذي خلفه لنا، وخاصة في سنوات موته الرئاسي الأخيرة؛ حيث بدأت الجماعات الفاسدة والحاشية في تلمع نجم جمال مبارك الملقب بمفجر ثورة التغيير، ولكن التغيير إلى الأسوأ، وبدأ يطفو نجمه الآن من جديد، ومن فحش الظلم الحالي مقارنة بالماضي المبارك هناك ميل لجمال من جديد، ولكن هل نسينا بسرعة هكذا دم الشهداء وفساد أحمد عز ومن على شاكلته حتى نعيد الكرة من جديد؟ ! الآن مبارك حر على الأرض، والآن أرواح الشهداء أيضاً حرة، ولكن في السماء، ولا يوجد سوى حسرة الأم المجروحة في نِن قلبها، والزوجة والابنة وكل أسرة لديها شهيد ها هو يُفتح الجرح من جديد، فالقاتل لم يحاسب على ما فعل، وأصبح حراً طليقاً يخرج لسانه لنا جميعاً مشوحاً بيده من شباك الطائرة، ولسانه يهمس قائلاً: دمتم حمقى.. دمتم ناسين ما حدث وغير واعين بما يحدث. الآن وأنا أقرأ خبر الإفراج عن مبارك أضحك، وشر البلية ما يضحك، وأتذكر محاكمة القرن، وفرحة دخول الطاغية إلى القفص والثورة والمطالب والحرية والديمقراطية، والوطن العائد إلى أحضان أصحابه، ولكن كما كتب نجيب محفوظ في رائعته الخالدة "أولاد حارتنا": آفة حارتنا النسيان. لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد خلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى ودمعة سدى أمل دنقل ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :