المطربة العراقية مائدة نزهت تصوغ في نتاجها الفني صورة ليس عن فتيات الطبقة المتوسّطة العراقية فحسب، بل تصوغ أيضا مسار تلك الطبقة في صعودها الثقافي والاجتماعي، وانحطاطها لاحقاً.العرب [نُشر في 2017/03/25، العدد: 10582، ص(16)]جرأة التغني بفستان ميلانو (إيطاليا) - كتاب “رقصة الفستان الأحمر الأخيرة – سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء والموسيقى”، للكاتب العراقي علي عبدالأمير، سرد شيق وممتع، لقصة العراق اجتماعيا وثقافيا بين 1940 و2015، لكن كاتبه يتوخى سرد تاريخ العراق من خلال زاوية طريفة ومختلفة هي الموسيقى والأغنيات، حيث يمكن للفنون أن تؤرخ لبلدانها بطريقة أعمق وأكثر شفافية مما يفعله التأريخ. ومما جاء في الكتاب، الصادر أخيرا في 558 صفحة عن منشورات المتوسط – إيطاليا، أنه في عزّ سنوات العراق المدني، واستقراره النسبي، ثقافيا واجتماعيا، قدّمت المطربة مائدة نزهت أغنية «يا أم الفستان الأحمر»، وكانت تلك جرأة تُحسَب للتغني بفستان، في إشارة إلى رقي سلوكي، ورفعة في الذائقة، في مجتمع كان يتخلى -تدريجيا- عن صرامته ومحافظته عشائريا ودينيا، ويتّجه إلى ملامح مَدَنية، تتعاطى مع رقة أنثى، وحضورها الفاتن، بدلع فستان أحمر. لكن الكاتب يرى أنه مع اختطاف الدولة من قِبل المغامرين «الثوريين» من الأحزاب الشمولية والضباط العسكريين، تراجعت القِيم الثقافية الطبيعية، ومنها أشكال التعبير بالغناء الراقي عن مشاعر الحب، فمن أغنية «أم الفستان الأحمر»، إلى «حياك يا أبو حلا»، للمطربة ذاتها حين تغنت بالدكتاتور، وهي -بهذا- تجسّد جناية الانقلابات العسكرية، والأفكار «ثورية» الشكل، وهمجية الفحوى، لا على الدولة فحسب بل على الطبقة المتوسطة حارسة قِيم الحداثة في المجتمع، ومحرّكها الوحيد، فتجعلها أسيرة السياسة الحكومية، والحزبية الضيقة، وعبداً ذليلاً لثقافتها ونهجها التدميري في القمع داخلياً، والحروب خارجياً، وصولاً إلى تراجع مخيف، في قِيم المدنية، لصالح قوى الظلام الفكري اليوم. كما يلفت عبدالأمير إلى أنه ليس عسيراً التمييز بين مَلمحين في أغنيّات المطربة مائدة نزهت؛ الأول هو العاطفي الأنيق المهذب، والثاني هو «الوطني» الدعائي الفجّ، مثلما يمكن ملاحظة مَلمحين آخرين: الجانب المديني المتفتّح بتلقائية، وهو يشبه خمسينات العراق من القرن الماضي، والجانب الفوضوي، حيث اختلاط البيئات والأنساق الثقافية بطريقة فجّة ومبتذلة، تحت أسر الإعلانات «الثورية والوطنية» التي ميّزت ستينات القرن الماضي وسبعيناته. وهي في نتاجها الفني، وحتّى مسار حياتها الشخصي، إنما تصوغ صورة ليس عن فتيات الطبقة المتوسّطة العراقية (المتعلّمات) فحسب، بل تصوغ مسار تلك الطبقة في صعودها الثقافي والاجتماعي، وانحطاطها لاحقاً. ومع مراجعة أولية، لأغنيّاتها، نجد ملامح الجرأة والثقة في البوح بمشاعر الحب، ولكنْ في إهاب من التهذيب والرقة، وهذا جزء طبيعي من المسار المنفتح للطبقة المتوسطة، مع بداية تشكّلها كمؤثر اجتماعي متزامن مع صعود قيم الحداثة التي كانت تقدمها الدولة قبل أن تحطّمها الانقلابات العسكرية، في مقابل قيم التخلّف التي تضخّها منظومتا الدين والعشائرية. من هنا نستجلي كيفية تأريخ الكاتب للعراق بمختلف مظاهره الاجتماعية والسياسية من خلال الفن، حيث ينعكس الواقع بكل محمولاته غالبا على الفن، ليؤثر فيه، وهي علاقة أزلية بين الفنون والواقع يؤكدها تمشي الكاتب التأريخي.
مشاركة :