أنتَ قلت ليس كتابا، وليست رواية بالمفهوم الشائع، إنه عمل صحافي مبتكر، استنبط أدواته بنفسه وصنع مجده الذي سيبقى عاليا لا يضاهى بين كل الكتب التي صدرت وستصدر.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/03/25، العدد: 10582، ص(18)] عندما نتحدث عن الروائي بوصفه صحافيا يتبادر إلى ذهننا أرنست همنغواي، ماركيز أيضا كان صحافيا يرفع أكمام قميصه عندما يكتب، الوجه الأكثر أهمية لامبرتو أيكو، كان الوجه الصحافي. وتشير كل الدلائل إلى أن العصر الرقمي سيغيّر الأدباء إلى صحافيين. لكن ما أقدمت عليه الفيلسوفة الهولندية كوني بالمن فاق كل الرؤى، في رواية “أنتَ قلت”. لقد اختار الشاعر البريطاني تيد هيوز الصمت حتى اللحظة الأخيرة بعد انتحار زوجته الشاعرة الأميركية سلفيا بلاث، فقوّلته كوني بالمن بوصفه الموضوع الأكثر طلبا. اختار هيوز بعد موته، أو بالمن اختارت له أن يتخلص من صمته بشأن كل ما قال وقيل في الصحافة والكتب، ليجيب على أسئلتها الصحافية التي اندلعت كشلال من الكلمات الجارحة والمضيئة، الملتاعة بحزن والصادقة حد الدمع. فكانت رواية استقصائية ترجمتها ببراعة الزميلة لمياء المقدم، بل قصة صحافية بامتياز نادر خالية من الفصول والأبواب التقليدية التي عادة ما تتشبث بها الكتب. “أنتَ قلت” ليس كتابا، وليست رواية بالمفهوم الشائع، إنه عمل صحافي مبتكر، استنبط أدواته بنفسه وصنع مجده الذي سيبقى عاليا لا يضاهى بين كل الكتب التي صدرت وستصدر، مثلما سيمثل تفنيدا لكل الأقاويل التي أشاعتها الصحافة من دون ضمير، بعد انتحار سلفيا بلاث. استعانت بالمن بقصائد عيد الميلاد الثماني والثمانين، المجموعة التي نشرها تيد هيوز قبل وفاته بأشهر قليلة، بالإضافة إلى ذلك شكلت أعماله الشعرية الأخرى مثل “حياة وغناء الغراب” و”كابريشو” و”عواء وهمسات” نقطة مهمة ورئيسية في كتابة “أنتَ قلت”. وهذا برأيي غير كاف لمثل هذه المهمة التي أناطت بالمن بها قلمها، كان المكان وطبيعته والأحداث التي جرت والحوارات العاشقة والساخطة وبريق الشر والأفاعي التي تخرج بين ليلة وأخرى من جحورها، والأوجاع في عيون سلفيا والصمت الموجع أيضا عند تيد، وطبيعة الأشخاص الشهود من بريطانيا حتى الولايات المتحدة… لا تكفي كل ذلك القصائد وحدها، كان ثمة جهد جبار قامت به بالمن وهي “تتخيل” بحس صحافي سردي تفاصيل الأطباق والكراسي في منزل الزوجين وأردية سلفيا وتعيش في مشاعرها، بل كانت روحها الناطقة بصوت تيد هيوز، فهو الذي قال أخيرا، وتلك أرفع المهام الصحافية التي تعلو على الروائي المترفع عن الصحافة. لأن هذه الرواية عمل صحافي بامتياز، يعترف هيوز منذ البداية “كان أحدنا قد انتهى: هي أو أنا”، ولو تسنى لأي صحيفة نشر هذه الفقرات لأخذتها عنوانا رئيسيا لصفحتها الأولى.درس في الكتابة يتجاوز ما قال وقيل في الصحافة يصف حبيبته أشبه بإجابة على سؤال صحافي: لم يسبق أن قابلت في حياتي شخصا يكاد ينعدم لديه الفرق بين الحب والكراهية حتى يصبحا مرادفين لبعضهما، ترغب بشدة في أن تقع في حب أحدهم، لكن ما إن يحدث هذا حتى تكرهه. ويتوقع مصيره ومصيرها منذ القصيدة الأولى عندما أخبرته أنها كتبت قصيدة بعد ساعات من لقائهما الأول، فهم منها أن الصورة التي رسمتها له تتلخص في كونه صياد نساء، وسارق قلوب، أو نمرا أسود يلاحقها. تَعرضْ كوني بالمن للأمكنة مستثمرة الاستطلاع الصحافي، فباريس كانت فرصة للتنقل بين مقاه جلس فيها همنغواي وفيتزجيرالد، تاركين آثار شفاههما العابرة للأطلسي على الزجاج والأكواب، وتتمتع سلفيا بلاث بعد أشهر من زواجها من تيد هيوز، بالعبقري بيكاسو، والنظرة الجديدة للانطباعية الحديثة، حيث لن يكون بوسعهما معا أبدا أن يريا الشروق بعيون غير عيون مونيه، فيما كانت تستعيد هي كل المعارف عن باريسها المتحسرة بفعل فقدانها الأمل، الصامتة بفعل كرامتها المهانة. أليس مثل هذا الكلام تحقيقا صحافيا عن مدينة باريس نهاية عقد الخمسينات من القرن الماضي، قامت به بالمن وهي تحمل قلمها وعدستها وتُثبّت أفكارها عن المدينة التي تعرفها وتجولت في طرقاتها، أو عرفتها عن طريق الزوجين الشاعرين الذاهبين إلى تعاسة لا تحتمل. هذا العمل الذي اختفت فيه الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية المختلفة، كان الإجابة الأكثر طلبا على كل ما نشر في وسائل الإعلام، وما اشتغلت عليه السينما أيضا في توظيف قصة الشاعرين، فتيد هيوز كان الرهينة الصامتة في الأعوام الخمسة والثلاثين منذ انتحار سليفيا بلاث 1963 حتى وفاته 1998، رهينة داخل أسطورتها، مسجونا ومقيّدا في ضريح، حيث يتوافد الزائرون لمشاهدة الآثار المتبقية من زواج تراجيدي، منحهم كاتبو المذكرات والمؤرخون والصحافيون والأكاديميون صورة مشتركة جمعت بينهم، وجعلتهما غير قابلين للتفريق، لتنتقل بعد ذلك إلى أذهان ملايين البشر وترسخ لديهم. ويصل تيد هيوز إلى قول كلمته الأكثر تعبيرا، فليس حقيقيا ما يدعيه المنافقون بكثير من المسؤولية الخادعة، من أن الموتى غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم ضد التشهير وتشويه الصورة، كما لو أن الحي أقدر على الدفاع عن نفسه ضد هذا الوابل من التشهير، والتنكيل بسمعته، والافتراء عليه، والشائعات التي تحاك حوله وعنه. وهاهي سلفيا تظهر كما هي وبصوت هيوز الذي يدافع عن نفسه ويُظهر الحقيقة كما هي، بعد انتحارها وموته، لقد استنطقت كوني بالمن بعدالة القاضية الفيلسوفة المتمرسة ومهنية الصحافية تاريخ الشاعرين في درس سيبقى مثالا في الكتابة إلى الأبد، أو على الأقل كلما ذكرت سلفيا أو ارتفعت الأصوات المتهمة زوجها بالدفع باتجاه انتحارها. في الصفحات الأخيرة يصف هيوز بطريقة مثيرة لاشمئزازه، كتّاب السير الذاتية بأنهم يتصرفون بحياة الآخرين كما لو أنها ملكهم الخاص، فيتفننون في صنعها على طريقتهم، معترفا بصدمته من صوره المتناقلة في الكتب، وحياته المغلّفة التي أصبحت مفتوحة على وسعها في كل مكان، زواجه، مشاعره أفكاره وتصرفاته، كلها تم تأويلها من الأصدقاء والغرباء، استغل عشرات الصحافيين الباحثين عن الشهرة اسمه وزوجته ليصنعوا أمجادهم، وكان ادعاؤهم معرفتهم بالشاعرين، بهذا الشكل الوضيع. حقا قال هيوز كلمته ودافع عن زوجته بطريقة ستجعله يعيد ثقته بالآخرين لأن كاتبة بارعة مثل كوني بالمن تولت هذه المهمة وأيقظته من رقاده الأبدي. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :