هدم الأساطير.. أسطورة الخالد أبو خالد (1)

  • 3/25/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول 1970، لفظ البكباشي عبد الناصر أنفاسه الأخيرة عن عمر يناهز الـ52 عاماً، بعد إصابته بنوبة قلبية توفي على أثرها، وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول خرج نحو 5 ملايين مصري لتشييع الرئيس الراحل الذي أذاقهم الذل والهوان نحو عقدين من الزمان، في جنازة شعبية مهيبة لم تشهد البلاد مثلها من قبل، لتكون شاهداً لا يمحى على قدرة الإعلام الرسمي على خلق الزعامة الزائفة والبطولة الواهمة مثلما صنع الإعلام المصري بعبد الناصر. عبد الناصر والحركة العمالية بعد نحو 20 يوماً فقط من انقلاب يوليو/تموز، وفي 12 أغسطس/آب 1952، أضرب عمال مصنع شركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار، حينما قامت إدارة المصنع بنقل مجموعة من العمال من مصانع كفر الدوار إلى كوم حمادة من دون إبداء أسباب، ما أثار ثائرة العمال وأعلنوا إضرابهم عن العمل، وقاموا بوقفة احتجاجية لإعلان مطالبهم لحركة الجيش، منددين بحركة نقل العمال وتدهور سكن العمال، مطالبين بزيادة أجورهم وإجراء انتخابات نقابية حرة، وبسقوط محمد حسين الجمال المدير العام للشركة وابن عمه عزيز الجمال المدير العام للنسيج، وبسقوط السكرتير العام للشركة حسين فهمي التركي الجنسية. وظن العمال واهمين أنه بقيام ثورة يوليو قد أصبح الجو العام مناسباً لتحقيق مطالبهم ونيل حقوقهم، وكانوا على درجة من التحضر فكتبوا على اللافتات: "المصانع أمانة في أعناقنا.. أرزاقنا في هذه المصانع فحافظوا عليها"، وتصاعدت الأحداث صباح الأربعاء 13 أغسطس، واشتعلت المظاهرات في شوارع مدينة كفر الدوار كلها وداخل الشركة، وقام عمال المصنع بمظاهرة ضخمة جابت شوارع كفر الدوار للمطالبة بإنهاء الحصار المفروض على زملائهم. والمفارقة اللافتة للنظر، أن المظاهرة كانت تهتف: "يحيا القائد العام ... تحيا حركة الجيش"، وفي طريقهم مرت مسيرة العمال على إحدى نقاط الجيش وألقى العمال التحية على العساكر، هاتفين الهتاف نفسه "تحيا حركة الجيش"، إلى أن وصلت مسيرة العمال لأحد الكباري، وعلى الجانب الآخر منه وقف الجنود المصريون شاهرين بنادقهم في وجه العمال ليمنعوهم من المرور. فانطلقت معركة بين الجنود المسلحين والعمال العزل استمرت ساعات، وانتهت المعركة والاعتصام بعد اعتقال 576 عاملاً، كان من بينهم طفل في العاشرة من عمره، وشكل مجلس قيادة الثورة في مساء 13 أغسطس مجلساً عسكرياً برئاسة البكباشي عبد المنعم أمين أحد الضباط الأحرار لمحاكمة العمال في فناء المصنع، الذين اتُّهموا بالقيام بأعمال التخريب والشغب والتحريض والمشاركة في الأحداث، ليفتتح بذلك صفحة محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. ولاستكمال الشكل القانوني للمحكمة، نظر القاضي للحضور وقال: "هل فيكم من محامٍ؟"، وكان موسى صبري، الصحفي الشهير، حاضراً وكان حاصلاً على إجازة الحقوق فاعتبروه محامياً، وتقدم للدفاع عن المتهمين بكلمتين شكليتين أدانتاهم أكثر مما دافعتا عنهم! وهكذا مضت المحاكمة دون أدلة ولا دفاع ولا محاكمة، كانت محاكمة هزلية، وظل المتهمان البائسان يصرخان: "يا عالم ياهوه.. مش معقول كده!!.. هاتوا لنا محامي على حسابنا حتى.. داحنا هتفنا بحياة القائد العام .. داحنا فرحنا بالحركة المباركة .. مش معقول كده!". وبسرعة وبعد 4 أيام فقط، انتهت المحكمة من النظر في القضية، وفي يوم 16 أغسطس وبساحة النادي الرياضي في المدينة، تم إجبار نحو 1500 عامل على الجلوس بالقوة لتذاع فيهم الأحكام المرعبة من خلال مكبرات الصوت بحضور "جمال عبد الناصر"، وتقدم الصاغ "صلاح الدفراوي" من القيادة العامة لتلاوة الحكم بالإعدام شنقاً على "مصطفى خميس" (20 سنة) و"محمد البقري" (35 سنة)، فضلاً عن الحكم على 29 آخرين بالسجن فترات تراوحت بين 15 سنة أشغال شاقة وسنة واحدة. وفي 18 أغسطس 1952، صدق محمد نجيب على الحكم وبات نافذاً متعللاً بضرورة ردع التمرد؛ حتى لا يجرؤ أحد على تكرار ما حدث رغم اقتناعه ببراءة الرجلين البائسين، كانت المحاكمة إرهاباً لبقية العمال حتى يردعوهم ويخيفوهم، ويقال إن هناك 3 من مجلس قيادة الثورة اعترضوا على الحكم، وهم: جمال عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين، لكن البعض الآخر أكد العكس تماماً وقال إن ناصر هو الذي ضغط على نجيب للتصديق على الحكم، وقال لنجيب نصاً: "إن لم يتم الردع فسيخرج كل عمال مصر، وهتطلع ثورة تانية جديدة". وهناك رواية أخرى تقول إن مجلس قيادة الثورة اتخذ قراره بالإجماع كما أكد ذلك عبد اللطيف البغدادى في مذكراته؛ بل إن حسين الشافعي قال: "ما المانع من إعدام مليوني عامل لحماية الثورة؟"، وقال السادات يوم 14 أغسطس 1952 في نقابة المعلمين: "سأعلق المشانق في شبرا الخيمة على أبواب المصانع إذا حدث أي تحرك من العمال"، ونصح أستاذ القانون د. سليمان محمد الطماوي ضباط يوليو قائلاً: "لقد أعدمتم اثنين من العمال فسكت العمال جميعاً ويحتاج الأمر إلى إعدام اثنين من الطلاب كي يصمت الجميع"، قبل أن يتولى عمادة كلية الحقوق بجامعة عين شمس بعدها بوقت قصير؟ وفي 7 سبتمبر عام 1952 من العام نفسه، قبل عيد الأضحى بأيام في سجن الحضرة بالإسكندرية وكأنهم أضحية العيد، وتحت حراسة مشددة تم تنفيذ حكم الإعدام في مصطفى خميس ومحمد البقري اللذين صرخا: "حانموت وإحنا مظلومين". لاحقاً، عرضت وثيقة تسجيلية نادرة لمحمد نجيب بعد اعتقاله سُئل فيها عن مصطفى خميس فانتابه ألم شديد وكأنه عذاب الضمير. أزمة مارس/آذار 54 في أواخر فبراير/شباط من عام 1954، اشتدت وطأة الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب؛ بسبب محاولات ناصر للالتفاف على الديمقراطية، وتحت الضغط الشعبي. وفي 25 مارس 1954، اجتمع مجلس قيادة الثورة وقرر حل مجلس الثورة وتسليم البلاد لممثلي الشعب، والسماح بقيام الأحزاب على ألا يؤلف المجلس حزباً، وأن رئيس الجمهورية تنتخبه الجمعية التأسيسية، ولما كانت تلك القرارات في ظاهرها إيجابية وفي باطنها تراجعاً تكتيكياً من عبد الناصر لإزالة الاحتقان في البلاد، لذا فقد قررت القوى الوطنية إقرار 28 مارس 1954 يوم الإضراب العام في البلاد؛ بهدف إنهاء الحكم العسكري فوراً وعدم الانتظار حتى نهاية الفترة الانتقالية في 24 يوليو 1954 كما وعد العسكر. وقبل ميعاد المظاهرات المرتقبة، توجه رئيس اتحاد نقابات النقل، الصاوي أحمد الصاوي، إلى مقر هيئة التحرير، والتقى الصاغ أحمد طعيمة والصاغ إبراهيم الطحاوي، وأبلغهما محاولات جذب النقابة إلى الإضراب المؤيد لعودة الديمقراطية، فتم الاتفاق على تحويل الإضراب من تأييد الديمقراطية إلى المطالبة بإلغاء قرارات 25 مارس، وبدأت الإذاعة المصرية تذيع بيانات صادرة عن النقابات العمالية تعلن فيها الاعتصام والإضراب؛ حتى يقرر مجلس قيادة الثورة استمراره في مباشرة سلطاته ويمنع قيام الأحزاب. وفي يوم 28 مارس 1954، خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ تهتف بسقوط الديمقراطية والدستور والأحزاب والحرية، وبحياة الجيش والثورة وعبد الناصر، وكررت هتافاتها: "لا أحزاب ولا برلمان"، "تسقط الديمقراطية.. تسقط الحرية". لاحقاً، اعترف "الصاوي" بأنه حصل علي مبلغ 4 آلف جنيه مقابل تدبير هذه المظاهرات، إلى جانب تدبير سلسلة من التفجيرات هزت أنحاء القاهرة، ويروي خالد محيي الدين في مذكراته "والآن أتكلم" أن عبد الناصر اعترف له بأنه دفع 4 آلاف جنيه من جيبه لتدبير مظاهرات العمال الرافضة للديمقراطية، وأنه قال له: "لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك، وقد كلفني الأمر 4 آلاف جنيه"، وهو يتفق مع ما اعترف به الصاوي. وفى مساء اليوم التالي 29 مارس، وصل المتظاهرون إلى مقر مجلس الدولة بالجيزة، وعلا الهتاف ليشمل الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة، الذي كان يرأس اجتماعاً للجمعية العمومية لمجلس الدولة في هذا الوقت، وبدأ المتظاهرون ينادونه بالجاهل والخائن، ويسبونه بأقذع الألفاظ ويطالبون بسقوطه هو الآخر، وتوقفت المسيرة خارج بوابة المجلس المغلقة بسلاسل الحديد، فدخل أحد الضباط إلى مكتب السنهوري، وطلب منه الخروج إلى حديقة المحكمة لمخاطبة الموجودين بها والتهدئة من روعهم. وبمجرد أن لمحه جموع المتظاهرين حتى اقتحموا فناء المجلس وانقضوا عليه بالسب والضرب، وكادوا يفتكون به ذلك اليوم، لولا أن تلقى الضربة أحد السعاة بمجلس الدولة، ولم يتمكن من مغادرة المكان إلا بعد قدوم الصاغ صلاح سالم الذى اصطحبه إلى الخارج، وحينئذ فقط أدرك السنهوري أن الأمر لم يكن مجرد مظاهرة عادية، وقال: "حينئذ، أدركت أن الأمر لم يكن مظاهرة أخاطب فيها المتظاهرين -كما ادعى الضابط- بل أمر اعتداء مبيّت عليّ، وما لبث المتظاهرون أن دفعوني دفعاً إلى الحديقة وتوالى الاعتداء". عبد الناصر والأقليات في عام 1959، أصدر جمال عبد الناصر قراراً جمهورياً بإغلاق كنائس طائفة "شهود يهوة" ومنع بناء أي كنائس أخرى لهم رغم أنهم طائفة موجودة في مصر منذ الثلاثينات ومسجلة رسمياً منذ سنة 1951، وتم القبض على المئات من أتباع الطائفة ووُضعوا في المعتقلات من دون تهم أو تحقيقات، وصارت حملة في الصحف تتهم الطائفة بأنها صهيونية وتابعة للموساد، ورغم ذلك ما زالت طائفة "شهود يهوة" موجودة في مصر وعددهم نحو 1200 فرد ولهم مجلة اسمها "استيقظ" وأخرى اسمها "برج المراقبة"، وتكنّ الكنيسة الأرثوذكسية المصرية العداء الشديد لتلك الطائفة، وساندت عبد الناصر في التنكيل بهم، مستغلة أن عقيدتهم لا تؤمن بأداء الخدمة العسكرية ولا المشاركة في الحروب. في عام 1960، أصدر جمال عبد الناصر قراراً بحل الجمعية البهائية الوطنية المصرية بقانون رقم 263، وصودرت أملاك البهائيين بما في ذلك المكتبات والمقابر، وضُمّت إلى أملاك الدولة وأُغلقت محافلهم، وتم تدمير سجلاتهم التاريخية رغم وجودهم في مصر من القرن التاسع عشر وبناء محفل لهم سنة 1924 وحكم المحكمة الشرعية 1925 بأنهم طائفة منفصلة عن الإسلام، ومن ثم اعترفت الدولة بهم كطائفة دينية رسمية في سنة 1942، ونَصّ قانون عبد الناصر على معاقبة من يعتنق البهائية بالحبس 6 أشهر والغرامة، وأيدت المحكمة الدستورية العليا قرار عبد الناصر لمجرد أن أعلى هيئة بهائية توجد في حيفا بإسرائيل، ولاحقت البهائيين موجات من الاعتقال منتصف الستينات. تقول الإحصائيات إن عدد البهائيين في مصر نحو 3000، ومن أشهر بهائيي مصر الفنان حسين بيكار. أما الأرمن، فيحكي "بيير قطار"، منتج الأفلام التسجيلية الأرمني المصري الأميركي، عن أصوله المصرية وذكرياته في مصر قبل وكيف كان والده يعامل على أنه أجنبي في كل المصالح الحكومية تحت حكم عبد الناصر، وكيف أنه ذات مرة تعرض للضرب في حمام أحد دور السينما من ميليشيات شبابية ناصرية تابعة للتنظيم الطليعي لمجرد إن شكله مختلف، ناعتين إياه بالأجنبي والجاسوس مما حداه الى الهجرة من مصر إلى الولايات المتحدة في نهاية المطاف حتى بعد وفاة ناصر، لم يكن والد بيير الحالة الوحيدة بل حسب فالإحصائيات تقول انه قد هاجر من مصر نحو 35000 أرمني بعد تولي جمال عبد الناصر الحكم، وتبقى فيها ستة آلاف فقط بسبب الاضطهاد ومصادرة الأملاك والتأميم أيضا باعتبارهم أجانب. و يقص بيير كيف تعرضت والدته وزميلاتها لمضايقات وتوبيخ من ميليشيات التنظيم الطليعي في الشارع لأنها كانت ترتدي الملابس الملونة ولا ترتدي السواد حدادا على وفاة عبد الناصر يتبع الاسبوع القادم... * هذا المقال مقتبس ومجمع من مقالات وكتابات عديدة لكتاب وصحفيين كثيرين، لهم كل الشكر على مجهودهم ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :