عالم اللجوء... وبوادر الصحوة

  • 3/26/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

التاريخ النضالي الذي قدمته الأجيال الفلسطينية المتعاقبة بكل أطيافها ومكوناتها منذ عشرينات القرن الماضي يتلخّص بكلمة مشرّفة واحدة، التضحيات. بينما يلخّص تاريخ أداء القيادات والأحزاب والحركات السياسية للشعب الفلسطيني في تلك الفترة بكلمة واحدة أيضاً، الاختلاف. قد لا تدرك غالبية الجيل الفلسطيني الحالي أنه قبل حوالي 68 عاماً من اليوم، لم يكن هناك فلسطين، فقد شُطب رسمها من خرائط العالم، واسمها من القاموس السياسي، وعلمها من سماء الكون، ووجودها من ذاكرة التاريخ، كان يبدو للصهاينة وحلفائهم أن تهجير أهلها وتدمير كيانها المجتمعي والسياسي لم يكن كافياً. عندما أدركت حقائق الواقع في بداية شبابي، كان كل ما تبقّى من فلسطين مجرد قطع مبعثرة، منها مكتب متواضع لحكومة عموم فلسطين في شارع جواد حسني في قلب القاهرة، يقوم بإصدار وثائق ولادة ووفيات، ونسخ متبقية من جوازات سفر عفا عليها الزمن أصدرتها حكومة فلسطينية لم ترَ النور في حياتها ولم يعترف بها أحد، وبضعة تجمعات إنسانية تتضمّن أسماؤها الإشارة إلى فلسطين، ووثائق سفر موقتة أصدرتها الدول العربية المجاورة لفلسطين، موسومة بتبعية حاملها لتلك المجموعة من البشر الذين أطلق عليهم اسم اللاجئين الفلسطينيين، صالحة للسفر إلى بعض البلدان العربية، ويتطلب ذلك السفر من اللاجئ الفلسطيني الحصول على إذن خروج من الدولة التي استقر بها وتأشيرة عودة إلى نفس تلك الدولة في إجراءات معقّدة وصعبة. كان قطاع غزة الصغير تحت إدارة مصرية تحتوي على لمسة من حكم ذاتي للفلسطينيين القاطنين فيه تحت إشراف صارم من الحاكم الإداري المصري، وضفة غربية متحدة مع المملكة الأردنية الهاشمية يمثلّها أعضاء فلسطينيون منتخبون في مجلس نواب أردني. انشغل الفلسطينيون في المهجر مبكراً في تلك المرحلة في تأمين حياة عائلاتهم وأولادهم في ظل الظروف المغرقة في الصعوبة التي وجدوا أنفسهم فيها، وجهدوا في سبيل تأمين لقمة العيش. تواجد هناك في تلك الفترة تنظيم وحيد فلسطيني خالص، هو الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي اختار العاصمة المصرية مقرّاًً للجنته التنفيذية، برز إتحاد الطلبة الفلسطينيين كقيادة تمثّل روابط الطلبة الفلسطينيين في مختلف جامعات ومعاهد العالم، وجاء معظم القيادات الفلسطينية للأحزاب والحركات والفصائل الفلسطينية السياسية في فترة تالية من كوادر الاتحاد العام للطلبة الفلسطينين وفروعه المنتشرة في العالم. سيطرت قيادة بعثية على رئاسة اللجنة التنفيذية للإتحاد لسنوات عدة قبل أن تسيطر على إدارته حركة القوميين العرب وتلتهما قيادة من حركة فتح في وقت لاحق. عندما انتهت حرب عام 1948 بنتائجها الكارثية التي يعرفها الجميع، اتسم رد الفعل الرسمي العربي، حيث لم يكن للفلسطينيين أي دور في تقرير مصيرهم وأمورهم، بفرض مقاطعة سياسية واقتصادية ونفسية على إسرائيل لعقود طويلة ابتدأ بعدها انفتاح خجول واتصالات وعلاقات سرية، تحولت بمرور الزمن إلى شبه رسمية وعلنية ومعترف بها، وفي شكل عام لم تتعرّض أراضي أيّ من الدول العربية المجاورة لفلسطين للاحتلال الإسرائيلي إلاّ بعد حرب عام 1967 حين قامت إسرائيل باحتلال أجزاء صغيرة من الأراضي السورية في الجولان ما زالت تحت سيطرتها، بينما تعرّضت سيناء المصرية وجنوب لبنان لاحتلال قصير انتهى باتفاقات أنهت ذلك الوضع. كان العبء الأكبر من نتائج حرب عام 1948 الكارثية والسنوات الأولى التي تلتها، من نصيب الشعب الفلسطيني وحده. بالنسبة الى الحياة اليومية للشعب الفلسطيني الذي حطّت قوافله المهاجرة في الدول العربية المجاورة فقد هرعت، بحماسة مقصودة، منظمات الإغاثة الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة الإنسانية لتولي مسؤولية وتكاليف إطعام وإسكان وتعليم وتقديم العناية الصحية لهؤلاء المهاجرين، وتم في وقت لاحق تشكيل وكالة خاصة في الأمم المتحدة لهذا الغرض لا تزال مستمرة في أداء عملها منذ 68 عاماً. كان هناك اهتمام دولي ملحوظ لتخفيف المصيبة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، وتجاوُز تصعيد رد فعله، وتخفيف تحمّل مسؤوليات وميزانيات الدول العربية المجاورة التي فتحت أبوابها وأحضانها للاجئين الفلسطينيين ومنحتهم الملاذ الآمن والحياة الكريمة وشاركتهم إمكاناتها المتواضعة. فُتحت أمام اللاجئين الفلسطينيين بعد أشهر معدودة من النكبة وفي بدايات خمسينات القرن الماضي أبواب المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي حيث انتقل عشرات آلاف منهم إلى أسواق العمل والتعليم والوظائف والعمل المهني هناك. أمّا الفلسطينيون الذين وقعوا تحت نير الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي لقراهم ومدنهم، فلهم قصة أخرى وأسفار مضمّخة بالدم والدموع. أمّا الفلسطينيون الذين كانوا يعيشون في مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة، بمن انضم إليهم من لاجئين طردتهم القوات الصهيونية من مدن وقرى فلسطينية أخرى، فهم القصة والرواية والمشكلة والعذاب.. والأمل. على رغم أنه ليست هناك فائدة من تكرار الحديث عمّا مضى، فهو أمر يدركه الشعب الفلسطيني جيّداً وقد عايشته وعانت منه أجيال متتالية منذ البدء في إنشاء الأحزاب الفلسطينية قبل عام 1948، وبعد إنشاء الأحزاب والحركات والفصائل في السنوات التي أعقبت عام 1948، وما تلا ذلك من إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وإعلان الدولة الفلسطينية مروراً أيضاً بإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية وحتى وقتنا الحاضر. أبتدأ النشاط السياسي للاجئين الفلسطينيين في المهجر بانضمام بعض الشباب الفلسطينيين إلى الأحزاب العربية المتواجده في بلدان المنافي، والتي كان لجميعها اهتمام خاص بالقضية الفلسطينية منذ ما قبل عام 1948. في سورية ولبنان رأى بعض الفلسطينيين في برنامج الحزب السوري القومي، وكذلك حزب البعث العربي الاشتراكي، مساحة يستطيعون من خلالها التعبير عن آرائهم وقناعاتهم الوطنية. وانضم آخرون في قطاع غزة والأردن لتلك الأحزاب ولتجمعات سياسية أخرى مثل تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان في الأصل وقبل النكبة يشتمل على أعضاء فلسطينيين ضمن تشكيلات جماعة «الإخوان» المصرية. كما انضم بعضهم لحزب التحرير الإسلامي في الضفة الغربية. شارك عدد كبير من الشباب القلسطينيين أيضاً في حركة القوميين العرب الناشطة في لبنان وسورية التي كانت تمثّل حزباً قوميّاً عربيّاً واعداً. كذلك انضم رعيل من الشباب الفلسطيني للأحزاب الشيوعية اللبنانية والسورية والعراقية. تلك كانت هي المرحلة الأولى من المشاركة الفلسطينية في العمل السياسي، حيث جسّدت تلك المرحلة القناعة المهيمنة على غالبية أساتذة ومنظّري الفكر السياسي القومي العربي الجارف المؤيد والمتبنّي للبعد العربي أساساً للعمل لاسترجاع الأرض السليبة. لم يمضِ وقت طويل قبل أن يدخل العمل التنظيمي الفلسطيني في مرحلته الثانية. حين تطّورت بدايات تشكيلات الأحزاب الفلسطينية باتجاه «استقلال ذاتي» داخل بعض الأحزاب العربية وظهرت للوجود في منتصف الخمسينات قيادات ونشطاء تخصصوا في العمل الفلسطيني داخل الأحزاب العربية المتواجده على الساحة. أصبح في وقت لاحق للفلسطينيين المنضمين لحزب البعث السوري وذلك العراقي وكذلك لحركة القوميين العرب وغيرهم، قيادة خاصة داخل تلك الأحزاب تعنى بالجهد والعمل الفلسطيني وتوسّع ذلك المفهوم في وقت لاحق في الأحزاب العربية القومية، حيث ظهرت قيادة فلسطينية متخصصة بالشأن الفلسطيني، بكوادر فلسطينية من اللاجئــين الفلسطينيين، مسؤولة عن الإعداد وتدريب الأفراد وتثقيفهم بتأييد ودعم من الأحزاب المعنية والدول التي يتولى الحزب المعني الحكم فيها. انضمت كافة الأحزاب والفصائل الفلسطينية، في شكل أو آخر ووقت أو آخر، لمنظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد بما فيها الحزب الشيوعي الفلسطيني تحت اسم «حزب الشعب». كان بعض تلك الفصائل الفلسطينية المنضمّة لمنظمة التحرير يمثّل فروعاً رسمية شبه مستقلة لأحزاب في بعض الدول العربية. تم في عام 1964 إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية من قبل الزعماء العرب، كانت منظمة التحرير هي الإطار الوطني الثاني للعمل الجماعي الفلسطيني الذي أنشأته الدول العربية بعد تجربة الهيئة العربية العليا التي شُكلت في عام 1947. كان تشكيل تلك الصيغة باكورة عمل فلسطيني واعد بعد نكبة عام 1948 وكانت أول ترسيخ حقيقي للبدء في عمل وطني فلسطيني مشترك كان الأمل ألا يلقى مصير التجربة الأولى العاثرة. تواجد في الساحة الفلسطينية في ذلك الوقت تنظيمان فلسطينيان أساسيان أحدهما لا زال في عمر الوليد وهو تنظيم حركة «فتح»، والثاني هو الجناح الفلسطيني في حركة القوميين العرب الذي كان في قمة حضوره نتيجة للالتحام الجارف للجماهير العربية مع الأفكار القومية الوحدوية التي مثلتها الأحزاب الوطنية والقومية وبخاصة حزب البعث العربي الاشتراكي وتيّار الرئيس المصري جمال عبد الناصر الوحدوي الذي آمن معظم الشباب العربي في أنه «الطريق الوحيد لتحرير فلسطين». وحدها حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» من بين كل الأحزاب والفصائل والتجمعات، هي التي بشّرت واختارت طريقاً مختلفاً حوّل تفكير وقناعات الجماهير الفلسطينية والعربية وسياسات الأنظمة والحكومات العربية. كان منطق ومنطلق حركة «فتح» بسيطاً ومُقنعاً وعمليّاً، وتبلّور حول واجب الفلسطينيين أنفسهم وحقّهم في أن تكون لهم الريادة والمسؤولية في تحرير بلادهم. اتبع مؤسسو حركة فتح قولهم بالعمل ولم ينتظروا إذناً ولا تنسيقاً ولا ولاية ولا توجيهاً، وبرز منذ ذلك الزمن المبكر اسم ياسر عرفات كقائد شاب جديد للشعب الفلسطيني. كان القادة العرب في ذلك الوقت، وفي شكل خاص قادة مصر والأردن وسورية، يقودون عمليّاً العمل الفلسطيني منذ أواخر ثلاثينات القرن الماضي وبعد أن تنازلت اللجنة العربية الفلسطينية العليا، الصيغة التي توصّلت لها الأحزاب الفلسطينية للعمل المشترك في ذلك الوقت، عن دورها طوعاً بقبولها قرار وقف ثورة عام 1936 بناء على نصيحة من الملوك والرؤساء العرب. اكتسبت تلك الوصاية العربية صفتها القانونية في بروتوكول تشكيل جامعة الدول العربية عام 1945 الذي منح الرؤساء العرب حق تعيين الممثل الفلسطيني لدى الجامعة العربية. في مبادرة من الرئيس المصري المرحوم جمال عبد الناصر وتأييد معظم القادة العرب، تقرر تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر القمة العربي الأول في عام 1964، واختار القادة العرب السيد أحمد الشقيري، الديبلوماسي الفلسطيني اللامع الذي شغل مناصب هامة في كل من سورية والسعودية والذي يتحدر من عائلة فلسطينية عريقة في مدينة عكا، التي تنتسب لها أيضاً عائلتي التي كانت تربطها علاقات صداقة وجوار بعائلة الشقيري. قابلت السيد أحمد الشقيري في نهاية عام 1964 في أحد فنادق القاهرة للسلام عليه، وكنت في السنة النهائية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة. كان الشقيري (أبو مازن) خطيباً مفوّهاً وشخصية محبّبة، غزير الاطلاع والمعرفة، عارفاً بتاريخ العرب وأنسابها ودولها ومدنها وقبائلها، شديد التهذيب وضليعاً باللغة الإنكليزية. تحدث الشقيـــري في ذلك اللقاء للموجودين بحماسة بالغــة عن منظمة التحرير ومستقبلها وتأييد الشعب الفلسطيني لها، ودعانا جميعاً للانضمام للمنظمة والمشاركة بالعمل من أجل تحرير فلسطين. استجابة مني لهذه الدعوة حيث أنني كنت في ذلك الوقت أميل بأفكاري لحركة القوميين العرب على خطى أخي الشهيد غسان، سألت السيد الشقيري بحماسة عن كيفية الحصول على «طلبات» الانتساب لمنظمة التحرير، فأجابني أن الانتساب للمنظمة محدد فقط للأحزاب والتنظيمات السياسية وليس للأفراد. كانت تلك هي المرة الأولى التي أُدرك فيها أن عهد التنظيمات والحركات والأحزاب في التاريخ السياسي الفلسطيني الحديث قد ابتدأ. أيّدت حركة القوميين العرب التي كانت لها جذور واتجاهات قومية في ذلك الوقت، والتي كانت على وفاق مطلق مع الرئيس جمال عبد الناصر، إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وتعاونت مع رئيسها الشقيري. بينما أبدى حزب البعث العربي الاشتراكي حماساً محدوداً لهذا القرار العربي نتيجة للعلاقات المتأرجحة بين سورية والعراق البعثيين من جهة، ومصر الناصرية من جهة أخرى، كما أيّدت المملكة الأردنية الهاشمية إنشاء منظمة التحرير لأسباب أخرى ومختلفة. كانت حركة «فتح» في تلك الفترة قد بلورت فكراً مختلفاً عن أفكار حتمية تحقيق الوحدة العربية، وقدمت للجماهير الفلسطينية والعربية نظرية وتجربة تدعو الفلسطينيين أنفسهم للكفاح المسلح لتحرير بلدهم، وباشرت باكورة عملياتها ضد إسرائيل. كان هذا التنظيم قد انتشر وكسب تأييداً واسعاً من شرائح اللاجئين الفلسطينيين والجاليات الفلسطينية في المهاجر وكذلك تأييداً ودعماً مالياً من بعض دول وإمارات الخليج العربي، ودعماً عسكرياً من سورية في شكل أساسي، وضمنت حركة «فتح» منذ ذلك الوقت المبكر الدعم الشعبي والمالي والعسكري الذي يؤهلها لقيادة الشعب الفلسطيني ومنظمته الجديدة، وليس فقط أن تكون عضواً على قدم المساواة مع التنظيمات الفلسطينية الأخرى. تحفّظت «فتح» على قيام منظمة التحرير وهاجمتها بضراوة باعتبارها هيمنة على الشعب الفلسطيني، وهاجمت أيضاً التنظيمات، والمقصود هنا حركة القوميين العرب، التي أيّدت واعترفت بمنظمة التحرير التي تمثل وصاية على الشعب الفلسطيني، وردت تلك التنظيمات بتوجيه اتهامات لحركة «فتح» باعتبارها تتبنى برنامجاً يهدف لتوريط الدول العربية، والمقصود مصر بالذات، وانحيازاً لسورية التي لم تكن على وفاق مع نظام الرئيس عبد الناصر. ابتدأ هذا التراشق بالاتهامات، وأضحت منظمة التحرير عاجزة عن القيام بأي دور ملموس سوى الدخول في معارك كلامية مع الأردن. استمر هذا الوضع في سنوات منظمة التحرير الأولى، حيث بقيت حركة «فتح» بعيدة عن المشاركة فيها، وابتدأ العداء بالتصاعد بين المنظمة وحركة القوميين العرب. وعلى رغم موافقة سورية ومشاركتها فإنها لم تبدِ حماسةً للتعاون مع منظمة التحرير وبقيت على دعمها لحركة «فتح»، وساءت علاقات منظمة التحرير مع الأردن. أوقفت موقتاً حرب عام 1967 هذه الحالة وابتدأ التغيير في العلاقات بين الأطراف المختلفة لتشهد الساحة تبدلاً في مواقف المنظمتين الأكبر في العمل السياسي الفلسطيني حيث انضمت حركة «فتح» في عام 1968 وترأس زعيمها ياسر عرفات منظمة التحرير الفلسطينية، بينما اتخذت حركة القوميين العرب ومن ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي ولدت من رحمها، موقفاً سلبياً من منظمة التحرير تم تصعيده لاحقاً بالانسحاب منها.     * غداً حلقة ثانية

مشاركة :