في محرم 1437 غرَّد الناشط «وليد سليس» في حسابه بدعوة مفتوحة للجميع لزيارة القطيف، تبرع بأن يستقبلهم بنفسه ويأخذهم للمجالس المفتوحة هناك؛ ليحضروا مراسم عزاء الإمام الحسين. هذه البادرة رغم ما تحمله من حس كبير بالمسؤولية؛ إلا أنها أيضًا تحمل اعترافاً ضمنياً بأن المجتمع الشيعي ما زال معزولاً عن النسيج الوطني حتى الساعة، وأن الانفتاح على الآخر أصبح ضرورة مُلحة، كي يعرف الجميع حقيقة أنه مجتمع مسالم، ودود، وبعيداً عن ما يحاك ضده من أعداء الألفة ومحرضي الفتن؛ لكن هذه البادرة الرائعة كان الرد عليها من قبل مطلوبين أمنيين من القطيف باعتداء جسدي، أبقاه على السرير الأبيض إثر كسور في الأسنان وكدمات في الرأس! هل يبدو ما أقوله متناقضًا، أعني حول سلمية المجتمع الشيعي واعتداء بعضهم على بعضهم، هكذا ودون رحمة!. حسناً.. كل شيء سيكون واضحًا لك عزيزي جيري ماهر، خصوصاً حين تعرف أن المفتاح السحري لاكتشاف المجتمع الشيعي هو أنه ليس كتلة واحدة كما تعتقد، أو كما يعتقد الكثيرون، بل فيه ما فيه من انقسامات معقدة، فئات، أحزاب ولوبيات أيضًا؛ لكن للمصداقية فلكل مجتمع – بحسب نظريات الاجتماعيين – آفة قاتلة. فإذا كانت آفة الأكثرية هي النرجسية والتعالي، فإن آفة تلك الأقليات هي المظلومية. والآن؛ لنقترب أكثر من مقالك، رغم أنه كُتب بِلوعةِ عربي، حسرة رجل غيور على أمته، وحماسة هائلة وصادقة في أن يتحد العرب مجددًا؛ لكن برغم ذلك لم تخلُ لغتك المضيئة من استعلاء الأكثرية المعتاد، هل كنت تلاحظ ذلك حينما قلتَ: «وكانت دولنا العربية الإسلامية السنية هي التي أعادت إعمار قُراكم وبلداتكم ومساجدكم وحسينياتكم وأكثر من ذلك، أتاحت هذه الدول لكم فرص عمل أكثر من ممتازة، استطعتم خلالها تأمين حياة كريمة لكم ولعائلاتكم في لبنان، فأبعدت عنكم شبح العوز والبطالة وقلة الحيلة، نعم كانت هذه الدول التي أكلتم وشربتم ولبستم من خيرها دولاً عربية إسلامية سنية المذهب». هل كنت تفكر أن من تخاطبهم هم أبناء أرضهم أيضاً؟، وأن رُفاة أجدادهم القدامى متحدون الآن مع التراب ذاته؟، وأنك حين تخاطبهم هكذا، كما لو كنت تتحدث مع وافدين أو عابرين!. سأفهمك لو تحدثت هكذا عن حزب الله اللبناني، الذي حولته إيران لقنبلة مدمرة، خالية من الإنسانية، مسحورًا بأمجاد إيران وقدسية الخميني؛ لكن تذكر ما قلته لك: الشيعة ليسوا كتلة واحدة، ليسوا متطابقين.. هل أنا بحاجة لتكرارها مرة أخرى؟. لا أعتقد ذلك. إنك تفعل تماماً كما يفعل بعض الشيعة بل وبعض الساسة الإيرانيين باختزال السنة في داعش والقاعدة، إنك اختزلت الشيعة في كونهم معادين لأوطانهم، منتمين لإيران وأهدافها التوسعية، ونسيت الكثير من الرموز التي وقفت أمام شعارات الخميني وحزب الله ودفعت أرواحها انتصاراً لأفكارها العروبية والوطنية. تاريخيًا، أعني تاريخ المملكة تحديدًا، المنطقتان اللتان دخلتا في ظلّ المؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز، دخلتا دون سلاح، دون حرب أو دماء، كانتا القطيف والأحساء. لقد فرحوا بهذا العربي الأصيل الذي سيرفع ظلم الأجنبي عنهم. رأوه واحدًا منهم، وهو كذلك بالفعل. وأيضًا في العراق أبناء الرافدين الأحرار، كانوا خصومًا عنيدين لوليه الفقيه، ولتصدير الثورة. الكثير من علماء النجف كانوا كذلك، سيد فضل الله كان خصماً للنسخة الإيرانية من النظرية، أبي القاسم الخوئي، وآخرون. عزيزي السيد جيري ما هر إن ما نلته من هجوم بذيء في برامج التواصل الاجتماعي مؤسف، خصوصًا ممن طالته نيران المتطرفين أنفسهم؛ وإنني أستغرب مثلاً هجوم السيد سليس عليك وهو أحد المكتوين بتلك النار، وكدمات جسده تشهد على ذلك؛ لكنني أجد العذر لهم ولك، ورغم نواياك الطيبة؛ إلا أنك لم توفق في لغة المقال لسببين: الأول، التعميم. الثاني، الإقصاء في عباراتك: (نحن وأنتم، قراكم، مساجدكم، أحياؤنا وأحياؤكم!!… الخ)؛ لكن أيضًا أجد لك مبرراً، لا يمكنني تجاهله، أن الشيعة أنفسهم، كانوا سبباً رئيساً لعزل أنفسهم وإصرارهم هم أيضاً على لغة نحن وأنتم، هو ما جعل الشق أوسع، والهوة أكثر عمقًا؛ إلا أن عزلة الشيعة مشكلة ذات أذنين، مسك أحدها الشيعة أنفسهم، والأُذن الأخرى مسكها البقية. فمن ألوم وبصمات الجريمة متفرقة هنا وهناك؟. عزيزي ماهر لقد أحببتُ مقالك رغم ما به من مغالطات، لغة إقصاء وتعالٍ؛ لكنني اعتدت دائماً قراءة الأمور بشكل مختلف، إنني أتتبع سيرة الكاتب، وأجعل المقال الواحد ضمن سياق سيرته، وسياقك مضيء، ورايتك بيضاء وأهدافك نبيلة. لكن كن أكثر دقة، هدوءًا، وأكثر حبًا في المرات القادمة، وشكراً لأنك تهتم. نقلا عن “الجزيرة”
مشاركة :