"كيف سنعيش مع الجنائيات؟" كانت هذه الأطروحة الأكثر إلحاحاً في رؤوس جميع السجينات السياسيات في مصر منذ بداية الاعتقال حتى نهايته، ولم يكن هؤلاء يدركن أن أولئك "الجنائيات" ما هن إلا سيدات من مجتمعنا المنغلق المنفتح، وما كان يدور في مجتمع العنابر والزنازين ما هي إلا حياة أخرى موازية، فقط نراها بوضوح أكثر، نحتك بكل الطبقات ونشاهد من بعيد وقد تجتاحنا الشجاعة؛ لنصنع معهن مواقف، فتظهر منهن بطولاتهن المدفونة بدواخلهن المكبوتة. كل ما هنالك أنهن كن يخشين بطش الضابط والضابطة والسّجانات والمخبرين، ولم تكن شريحة كبيرة منهن على ذلك القدر من الجرأة؛ لكي تصرخ كما نصرخ، وتطلب حقاً لها مثلما نفعل، ولكنهن يملكن من الوعي والخبرة في الحياة والحنكة في التعامل مع المجتمعات الطبقيّة ما يفوق خبرتنا نحن «الزغاليل». الجنائيات بشر، وكان من الممكن أن تصبح إحدانا مكان إحداهن، كان من الممكن أن أقع في ضائقة مالية تضطرني للبصم على وصولات الأمانة أو اختلاس المال من خزينة الدولة، أو أن أمتلك من الباطن أدواراً مخالفة في أحد أبراج وحوش المقاولات والعقارات في البلاد مقابل ثمن بخس ودراهم معدودة، فالوقوع في الجريمة لا قيد ولا شرط له، فاليوم أصبح الكلام عن غلاء الأسعار في الموصلات العامة جرماً لا يغتفر، وارتداء الأقمصة الصفراء دليلاً على تطرف صاحبه وإرهابه، فماذا ننتظر عندما أصبح مجرمة لأنني أسعفت المصابين من الطلبة في ثورتنا العارمة التي سرقت؟! عوقبت لذاك الجرم بست سنوات من العمر الأخضر ولم يراعوا حرمةً في ذلك. أياً كان.. القاتلة والسارقة والبغيّ وبائعة العقاقير المسمومة والمزورة والمختلسة والقوّادة والكحولة التي قضت عمراً في السجن لتسد ديناً أخذته والأخرى التي لم تأخذه، كان من الممكن أن يكن سجينات رأي ومعتقلات مثلنا، كان من الممكن أن تكون إحداهن قد اعتقلت؛ لأنها تدافع عن رمز تؤمن به، أو لمطلب لها فيه حق محقوق، أو لأنها ترفض ظلماً أو تمقت نظاماً أو حكومة ظالمة.. الجريمة لأغلبهن لم تكن اختياراً بإرادة محتّمة؛ بل كانت فرضاً مسموماً عليها أن تؤديه رُغماً عنها فقط لأنها ضعيفة أو مطلقة أو مسنة أو تائهة.. أو جائعة! الجريمة لم تكن خياراً يخترنه لأنهن يضجرن من الرفاهية والبزخ، إنما أصبحن كذلك؛ لأنهن لم يجدن من يحملهن عن القذارة ويعتني بهن، لم يرَين من مجتمعهن إلا مقتاً ونظرات شذرات تنالهن؛ لأنهن مطلقات، لأنهن فقيرات، لأنهن لم يكملن مسيرة التعليم ورغماً عنهن أيضاً. أنا لا أخلق لهن الأعذار والمبررات، ولكن أوقن تمام اليقين أن رب الخلق يوم أن نُعرض عليه سيسأل من هم على ثغور الجهاد وحملة راية الإسلام عن تلك التي باعت السم؛ لأنها لم تجد خبزاً ولم تجد مَن يخبرها أن عذاب الله أقوى من جوعك، وأن رحمته أوسع من ضيق فكرك. سيسألنا الله عن تلك التي سرقت، وتلك التي زنت، وتلك التي باعت أبناً لها لتطعم إخوته، وتلك التي قتلت وتلك.. وتلك.. وتلك! المجتمع الذي نقطن فيه هو من صنّفهن كجنائيات قبل أن يعترف أنهن سيدات، كان من الممكن أن يصبحن فضليات لولانا! الجنائيات بشر مثلنا. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :