في هذا المقال يناقش علاء الأسواني أسباب النفاق في مصر. الواقعة الأولى: ــــــــــــــــــــــ من سنوات كنت أنشر مقالات أدبية في مجلة شهيرة يرأس تحريرها صحفي عظيم لكنه - رحمه الله- كان غريب الأطوار ، كان يحب السهر فجعل المجلة كلها تعمل ليلا. من منتصف الليل وحتى السادسة صباحا، ذهبت مرة لتسليم مقالي حوالي الثانية صباحا فجلست أنتظر مقابلته ووجدت بجواري فتاة في العشرينيات قالت لي إنها خريجة إعلام تتدرب في المجلة ثم راحت تشكو بمرارة من هذه المواعيد الغريبة للعمل وقالت لي إن أباها يضطر لانتظارها طوال الليل حتى يوصلها ثم نعتت رئيس التحرير بألفاظ قاسية جدا. زاد عدد الزوار فقرر رئيس التحرير أن يستقبلهم اثنين اثنين، فدخلت إليه مع الفتاة الغاضبة فاذا به تندفع نحوه وتقول: ــ يا أستاذي أنا قبل أى شيء عاوزة أشكرك مرتين. مرة لأنك قبلت اني أشتغل مع عملاق صحافة زى حضرتك والشكر الثاني على الشغل بالليل لأن حضرتك علمتني جمال الليل وحلاوته. الواقعة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ حدثت في استفتاء مارس/ آذار 2011 (حين خان الإسلاميون الثورة وتواطئوا مع المجلس العسكري لمنع كتابة دستور الثورة وتعديل الدستور القديم بلجنة إخوانية) .. وقف المواطنون في طابور طويل أمام لجنة في جاردن سيتي للادلاء بأصواتهم ثم حضر محافظ القاهرة ليدلي بصوته وأراد أن يدخل اللجنة مباشرة فمنعه الناس وطالبوه بالوقوف في الطابور فقال بتكبر : - لا أستطيع الانتظار .. لدى اجتماع مهم مع المشير طنطاوي القائد الأعلى للقوات المسلحة فأجابه أحد الواقفين : - لو جاء المشير طنطاوي نفسه يجب أن يقف في الطابور لم يتحمل المحافظ الموقف وانصرف بدون الادلاء بصوته أتذكر الواقعة الأولى الآن بعد أن صارت مصر تعوم فعليا على مستنقع من النفاق. في الإعلام حملة جبارة من النفاق يشترك فيها الجميع: ممثلون ومغنيون ولاعبو كرة قدم وأساتذة جامعات ومثقفون .. النفاق كله يدور حول السيسي القائد العظيم وعبقريته الفذة. البعض يتمادى في النفاق لدرجة أن تكتب كاتبة تطلب من السيسي أن يتخذها زوجة أو حتى جارية يستمتع بها وتعلن سيدة أخرى أن شعبنا لا يستحق قائدا عظيما مثل السيسي. النفاق له أشكال عديدة فهو كثيرا ما يتحول من المديح الفج إلى الاشتراك في مسرحية النظام السخيفة: فالذين يهاجمون الحكومة في مصر منافقون لأنهم يعلمون أن الوزراء عندنا لاحول لهم ولاقوة وهم، في أحسن الأحوال، مجرد أفراد سكرتارية عند السيسي والذين يطالبون البرلمان بأي شيء منافقون أيضا لأنهم يعلمون أن هذا البرلمان قد جاءت به الأجهزة الأمنية وهي المتحكمة الوحيدة فيه والنائب الذى يخرج عن السيناريو المرسوم له يتم طرده فورا ... الذي يتحدث بجد عن الانتخابات الرئاسية القادمة منافق لأنه يعلم أن السيسي لن يترك الحكم أبدا مادام يحظى بتأييد الجيش وأن أجهزة الدولة جميعا ستشترك في مسرحية اعادة انتخابه. والذي يتحدث عن تأثر الرئيس وبكائه حبا في مصر منافق لأنه يعلم أن هذا الرئيس رقيق المشاعر قد ألقى بعشرات الألوف من الشباب في المعتقلات بقضايا ملفقة أو في الحبس الاحتياطي سنوات بدون محاكمة أصلا. هؤلاء المعتقلون يعاملون ببشاعة ويموتون في المعتقلات فلا يثيرون اشفاق الرئيس أبدا. والذي يتحدث عن الدستور منافق لأنه يعلم أن الرئيس أول من انتهك الدستور ودهسه بالأقدام والذى يطالب المصريين بالتقشف وتحمل الغلاء منافق لأنه يعلم أن الرئيس ليس متقشفا أبدا، فهو ينفق الملايين على سياراته وحراسته وسجاجيده الحمراء بل انه حتى الآن لم يقدم إقرارا الذمة المالية كما يقتضي الدستور. كل هذا النفاق في مصر يدفعنا إلى السؤال: هل المصريون منافقون بطبيعتهم؟ هنا نتذكر الواقعة الثانية. هاهم مصريون عاديون يتصدون للمحافظ ليلزموه بالوقوف في الطابور بل ويقولون لو ان قائد الجيش جاء لألزموه أيضا باتباع النظام. النفاق ليس طبيعة في المصريين وإنما هو تشوه سلوكي ناتج عن الاستبداد.. إذا كنت حرا وأحسست أن هناك قانونا يحميك فلن تنافق السلطة أبدا. أما إذا كنت وحدك أمام سلطة قاهرة غاشمة ارادتها هي القانون فسوف تسكت عن الحق أو تنافق. إذا كنت تعلم أن الكفاءة وحدها ستؤدي إلى ترقيك في العمل لن تنافق رئيسك أبدا. أما إذا أدركت أن الترقي لاعلاقة له بالكفاءة وإنما بالولاء فسوف تنافق رؤساءك. الفتاة المتدربة في الواقعة الأولى تعلم جيدا أن مستقبلها المهني بيد رئيس التحرير يستطيع أن يرفعها أو يطردها في أي لحظة ولن يسأله أحد عما يفعل ولذلك فهي تنافقه، النفاق منبعه اليأس من العدالة والخوف من خسارة ظالمة قد تسقط عليك اذا أغضبت السلطة . بمجرد أن يتحرر الناس من الديكتاتورية يتحررون تلقائيا من الخوف ويدافعون عن الحق كما حدث في الواقعة الثانية. لن نتقدم أبدا في مصر إلا إذا رفضنا الديكتاتورية من ناحية المبدأ، بغض النظر عن نتائجها، إلا إذا آمنا أن الاستبداد هو ما يجعلنا كذابين ومنافقين وأنانيين وجبناء، يجب أن نؤمن أن كل جهد مبذول في نظام استبدادي هو جهد ضائع وأنه لا خير إطلاقا سيأتي من الديكتاتور مهما حقق من انجازات لأنها غالبا انجازات وهمية أو هشة ما أن يموت الديكتاتور حتى تتهاوى كلها كقصور من رمال كما حدث مع انجازات عبد الناصر . يعلمنا التاريخ أن الديكتاتوريات فشلها حتمي ونهايتها دائما كانت كوارث عانت من آثارها الشعوب لسنوات طويلة. الديمقراطية هي الحل draswany57@yahoo.com
مشاركة :