كان آخر ما يتوقعه سكان مدينة المزطورية في الجنوب التونسي أن يشاهدوا مقام الولي الجليل في الجهة وقد طالته عمليات نبش وتخريب. بالنسبة لسكان المدينة فإن الحادثة التي وقعت في شباط/فبراير الماضي تعد سابقة خطيرة، ولكنها ليست الحادثة الوحيدة التي تشهدها المنطقة المتواجدة على أطراف الصحراء في أقصى الجنوب. يعود تاريخ ضريح الولي الصالح عمر عبد الواحد إلى 234 عاما، وقد شيد المقام بعد عام واحد من وفاته. ولم تحل الهالة التي تحيط به بين سكان المدينة من أن يتحول إلى هدف لعصابات الآثار والباحثين عن الكنوز. يقول علي الثابتي ممثل المعهد الوطني للآثار بولاية تطاوين "تعرض القبر الى النبش من جهة الرأس. يبدو أن الهدف كان البحث عن الكنوز. وهي ذات العملية التي تعرضت لها أضرحة أخرى في جهة تطاوين وحتى خارجها". ويضيف الثابتي "حصل الاعتداء في الليل. والظاهرة لم تعد تقتصر على المعالم التراثية والثقافية ولكنها طالت القبور القديمة وهي مسألة تخدش الأخلاق والدين". في الفترة بين عامي 2011 و2012 خلال ذروة الانفلات الأمني تعرضت العديد من المواقع التراثية والأثرية لعمليات نهب منظمة أدت الى اختفاء الكثير من القطع القيمة. ومع أن السلطات ذكرت بأنها استعادت الآلاف من القطع الأثرية المفقودة فإنه لم يتم حتى الآن تحديد حجم جزء كبير من المسروقات. منذ ذلك التاريخ لا يمر في تونس يوم دون أن تعلن السلطات الأمنية عن ضبط عصابة أو متطفلين في المقابر ينبشون أضرحة وقبورا قديمة بحثا عن كنوز أو قطع أثرية نادرة وعالية القيمة. وفي ضاحية قرطاج الراقية شمال العاصمة، مثلت مقبرة المسيحيين هدفا سهلا للمتطفلين حيث تم نبش وتخريب 20 قبرا وهدم سور المقبرة. وقال أحد السكان القروبين من المقبرة لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) "أهملت السلطات المقبرة منذ زمن طويل. وبسبب غياب الحراسة والدوريات الأمنية فقد تحولت إلى مرتع للسكارى والمجرمين". وتابع قائلا "يأتي البعض ليلا بنية النبش والبحث عن أي شيء ثمين تحت الأرض". وليس بعيدا عن العاصمة صعق سكان مدينة قرمبالية بتعمد مجرمين نبش أحد القبور المسيحية وإخراج جثة امرأة. لم تعرف أسباب الحادثة على وجه الدقة لكن تقارير اعلامية محلية أشارت إلى امتلاك الامرأة لسن ذهبية ظلت محل أطماع المجرمين بعد موتها في قبرها. وإجمالا فإن أكثر الأماكن استهدافا تظل المقابر التاريخية والأماكن الأثرية للاعتقاد السائد بتواجد كنوز متروكة ومجهولة. وفي بلد عرف أوج حضارته القديمة خلال الحقبة الذهبية للفينيقيين المؤسسين لمدينة قرطاج؛ ومن ثم حقبة الرومان وبعدهم المسلمون الفاتحون، فإن أحد أقصر الطرق للمغامرين والباحثين عن الكنوز والثراء السريع هو النبش في مآثر الأمم الغابرة التي تمتد على تاريخ ثلاثة آلاف عام في تونس بحسب المؤرخين. تفوق عدد المواقع الأثرية في تونس بحسب المعهد الوطني للتراث 35 الفا، من بينها قرابة ألف خاضعة للحماية، أما باقي المواقع فهي تعاني منذ أحداث ثورة عام 2011 من غياب الحراسة والتهيئة لسبب أساسي يرتبط بمحدودية الموارد المالية. وقال فتحي البحيري مدير صيانة المواقع الأثرية "ليس لنا ميزانية لصيانة المواقع الأثرية في أية ولاية، مهما كان موقعها وأهميتها، إن كانت من المواقع المفتوحة للعموم أو المواقع الاثرية الكبرى غير المفتوحة". وهناك أربعة مواقع مدرجة ضمن التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو وهي قرطاج ودقة وكركوان والمسرح الروماني في مدينة الجم إلى جانب ثلاث مدن تاريخية وهي القيروان ومدينة سوسة العتيقة ومدينة تونس القديمة. مع ذلك فإن هذه المدن ليست بمعزل عن عمليات النبش والنهب المنظمة للأضرحة والمواقع الأثرية بجانب عمليات التهريب والاتجار في القطع الأثرية. وقد زادت وتيرة هذه الظاهرة منذ حالة الانفلات الأمني التي أعقبت الثورة. ففي مدينة القيروان وسط تونس، اعتقلت الشرطة ثلاثة عناصر بتهمة السمسرة والمتاجرة في القبور القديمة والمتروكة بعد أن تقدمت مواطنة من الجهة بشكوى إلى الأمن أعلنت فيها عن تعرض قبر والدها الى النبش والاستغلال أثناء زيارتها له. وفي نفس المدينة أوقف الأمن خلال نفس الفترة، أثناء عمليات مطاردة أفراد عصابة تتكون من أربعة عناصر كانوا بصدد التنقيب عن الآثار بالمنطقة الأثرية "شاكر" في معتمدية عين جلولة بالقيروان، وحجز الأمن لديهم قطع اثرية وكتاب في علم الآثار. ولا يختلف الحال في باقي المدن التونسية، إذ تنتشر قصص النبش والحفر في القبور والمواقع الأثرية بحثا عن الكنوز بشكل يومي في الصحف والمواقع الألكترونية. وتعد مدينة القصرين أكثر الجهات في تونس التي تضم مواقع أثرية، وهي تضم مدنا وكنائس وحمامات وأضرحة كبرى ومسارح وحقول زيتون منذ الحقبة الرومانية، لكنها تعاني من الإهمال وغياب الحراسة والرقابة. ويقر معهد حماية التراث من أن تحصن الجماعات الإرهابية المسلحة بالجبال المحيطة بالقصرين كان عنصرا ايجابيا تمثل في انتشار كثيف للوحدات العسكرية والأمنية في المناطق العسكرية المغلقة ما ساعد على قطع الطريق أمام عصابات الآثار التي تعمد الى القيام بحفريات ليلية. لكن كون المواقع الأثرية منتشرة على نطاق واسع في أنحاء البلاد، وبعضها لا يزال مطمورا تحت الأرض، فإن عمليات المراقبة والتعقب للصوص وشبكات الاتجار تبدو صعبة لوجيستيا. وتعكس بعض عمليات التعقب الناجحة قيمة المحجوزات التي يتم ضبطها لدى عصابات الاتجار في الآثار. وفي أحدث عملية تعقب ناجحة أفادت وزارة الداخلية التونسية بضبط مخطوطة نادرة من جلد الثور تعود للعصور الوسطى وقد خط عليها كتاب التوراة المقدس. وبحسب التحقيقات الأمنية كان أفراد العصابة الذين اعتقلتهم الشرطة يخططون لتهريب المخطوطة خارج البلاد وتسليمها لدولة أجنبية مقابل ثروة طائلة نظرا لرمزيتها الدينية. يبلغ طول المخطوطة التي عرضتها الداخلية في مؤتمر صحفي 37 مترا وعرضها 47 سنتمترا وقد كتبت عليها التوراة بكامل أجزائها باللغة العبرية. وتعود المخطوطة إلى القرن الخامس عشر ميلادي وقد كتبت بحبر يستخدم عادة في كتابة النصوص المقدسة. وقال متحدث باسم الحرس الوطني خليفة الشيباني "أكد لنا خبراء المعهد الوطني للتراث أنها قطعة أثرية فريدة من نوعها في العالم ولا تقدر بثمن". وأضاف المتحدث أن المخطوطة تحمل "أجزاء التوراة بأسفارها الخمس في نسختها القديمة الأولى، وهي سفر التكوين وسفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية. قبل أن يتم ترتيبها على النحو المتداول اليوم". ك.ف;
مشاركة :