ولد عباس محمود العقاد (1889 – 1964م) بأسوان جنوبي مصر، وحصل من مدارسها على الشهادة الابتدائية فقط سنة 1903م، ثم التحق بإحدى الوظائف الحكومية عام 1904م, وكان عمره آنذاك 15 سنة. وبدأ حياته الأدبية وهو في التاسعة من عمره، وكانت أول قصيدة نظمها في حياته هي قصيدة مدح العلوم التي يقول فيها: عِلم الحساب له مزايا جمّة وبه يزيد المرءُ في العرفان وكان العقاد أول من كتب في الصحف يشكو الظلم الواقع على الموظفين. ثم عمل بالصحافة، وبدأ نشر مقالاته في صحيفة عكاظ عام 1916م. والحقيقة أنه لم يتيسّر لكثيرين ما تيسر للعقاد من اطلاع وقراءة في الأدب والاجتماع والعلم والفلسفة، فلا يكاد يظهر مؤلَّف عربي أو أجنبي إلا ويسارع إلى اقتنائه والوقوف على ما فيه، وبذا أضحى موسوعياً، وأبى إلا أن يكون –إلى جانب الأدب- فيلسوفاً يعارض الفلاسفة، وعالماً يجادل العلماء في الكيمياء والفيزياء والجيولوجيا وعلوم الأحياء، وكأنه لم يكن يقنع في عالم الثقافة بالقيود والحدود، ولا يسلّم بالتخصص الضيق، ويكاد يرجع كثير من جدله واختلاف الرأي معه إلى هذه الناحية. فلا شك في أن القراءة المستنيرة تفتح آفاقاً جديدة، وتهدي إلى أمور كثيرة. وقد تجلّت موسوعية العقاد، وعمق ثقافته، ورحابة فكره، في كتبه ومؤلفاته العديدة، وفي أحاديثه وإذاعاته، وفي مقالاته ومساجلاته، وفي عبقرياته وفلسفاته. وليس أدل على اهتمامه بالثقافة العالمية من الإشارة إلى أعلام الفكر الأوروبي الذين اهتم لهم في جزأين سنتي 1929 و1945م، وفيه وحده يرد التعريف والمناقشة لإنتاج 67 شخصية علمية، وبعضهم من الأوروبيين أمثال (جوستاف لوبون)، و(شكسبير)، و(آينشتين)، وغيرهم. كذلك قضى العقاد في مجمع اللغة العربية بالقاهرة نحو ربع قرن جهير الصوت، قوي الحجة، عظيم الشكيمة، صاحب رأي يعتد به كل الاعتداد. وكم عرض العقاد للعلاقة بين الدين والعلم، باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه مشروعه الفكري والحضاري، ودافع بحيدة وموضوعية عن وحدة الفكر الإسلامي لتلبية مطالب الحياة الحديثة، ولتفعيل الإصلاح واطراد التقدم. وهو في هذا يوافق منهج الإمام محمد عبده (1849 – 1905م) الذي خصص له كتاب (عبقري الإصلاح والتعليم: محمد عبده) إصدار نهضة مصر، القاهرة. فقد كان الإمام محمد عبده يؤمن إيمان الدين المتين أن (التقدم العصري) رهين بعلوم لنا أهملناها وهجرناها، وعلوم لغيرنا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، وهي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان، لابد لنا من اكتسابها، وبذل المجهود في طلابها، لأنها كافة عنا أيدي العدوان والهوان، وأساس لسعادتنا، ومعيار لثروتنا وقوتنا. وأن تفوق الأمم على بعضها إنما يقاس بغلبة أفكارها والمهارة في معارفها. وكان للعقاد رؤية متميزة في فلسفة العلوم ومنهجية التفكير السليم والنظرة الناقدة، فمن أقواله التي جاءت في كتابه (مطالعات في الكتب والحياة): (الذي نعتقده أن العقل لا يكون نظرياً بحتاً، ولا علمياً بحتاً، وإنما أصلح العقول الذي تتزن فيه الملكتان، ويعتمد على الملاحظة وعلى الاستنتاج في حيث يصلح كلاهما. ولنحذر كل الحذر من أولئك الذين يغلون في القول فيدعون إلى احتذاء مثال واحد من التفكير أو يعجبون بطراز واحد من العقول، فإن هذا هو الخطل بعينه، وهو ضيق الفكر وعمى الحقائق الذي يشبه عمى الألوان في عرف أطباء العيون). وأورد العقاد في الكتاب نفسه –الذي صدرت طبعته الأولى عن دار المعارف بالقاهرة عام 1924م- فضلاً عن (القرائح الرياضية والتدين) نراه متعلقاً بما يسمى (نظرية المعرفة) أو (الإبستمولوجيا) Epistemology، فهو يرى أن معلومات الإنسان تنقسم من وجهتها العامة إلى قسمين: حقائق موضوعية Objective (أسماها خارجية)، وحقائق ذاتية Subjective (أسماها ذهنية). ويعنى بالقسم الأول الحقائق التي تستفاد من ملاحظة الأشياء (الخارجية) والتي يمكن تمحيصها باستقراء هذه الأشياء وترتيبها وتجربتها، وهو ما يعرف في فلسفة العلم المعاصرة بالمنهج التجريبي الاستقرائي. وتدخل في هذه الحقائق علوم الطبيعة على اختلافها، من علم يبحث في الحيوان أو في النبات أو في الجماد، أو على الجملة كل ما يقيده الحسّ من المشاهدات التي يقوم عليها البرهان من استقراء ظواهر الكون. ولابد للمشتغلين بتحصيل هذا النوع من الحقائق من دقة ملاحظة وملكة معودة أن تحصر الفكر في مراقبة هذه الأشياء ورد بعضها إلى بعض، وأن تلتمس منها تفسير عللها والنواميس التي تؤثر فيها. أما قسم الحقائق الذهنية فيعني به العقاد الحقائق التي يقوم البرهان على صحتها من بديهة الإنسان، ولا يتوقف العلم بأولياتها على المشاهدة والاستقراء، (وهو ما يعرف في فلسفة العلم المعاصرة باسم المنهج الاستنباطي). ومن ذلك أصول الحقائق الرياضية أجمع، وأصول المنطق، والفلسفة الإلهية، ويلحق بها كل ما هو وجداني لدني من المعارف والفنون حتى الموسيقى، فإنها في سبحاتها العالية ما تختلف كثيراً عن كونها معاني موحاة وأريحية ملهمة. ويستطرد العقاد موضحاً إمكانية الجمع بين المنهجين فيما عرف حديثاً باسم (المنهج العلمي المعاصر) أو (المنهج الفرضي الاستنباطي)، فيقول: (ولهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحياناً، وتتآلف العلوم التي تبحث فيها، وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها. فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة، ولا يندر أن ترى من يجمع بينهما وبين الموسيقى معاً. فالفارابي مثلاً كان فيلسوفاً رياضياً مبتكراً في الموسيقى، وفيثاغورس أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان كان يبني فلسفة الكون كله على النسب الموسيقية بين الأعداد. وقد مر بمصر قبل أيام (نشر العقاد هذا المقال في جريدة البلاغ في 19 فبراير 1923م) نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت آينشتين صاحب فلسفة (النسبية) التي دهمت الناس ببدع في تعريف الوقت والفضاء، يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم قد لا يكون أقرب موصل بين نقطتين... وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار. وهنا يحاول العقاد أن يجد تفسيراً يبرر نزعة العلماء إلى التدين، وخصوصاً الرياضيين منهم، فيقول: (إن اعتماد الرياضيين على البديهة أكثر من اعتمادهم على الحس والملاحظة، واستعانتهم بالفرض أكثر من استعانتهم بالتجربة، وموقفهم أمام المجهول موقف من يسلم به فرضاً ولا يستبعد فيه شيئاً، وهذا سرّ تدينهم وإخباتهم. ولهذا يرى العقاد في كتابه (الفلسفة القرآنية) أن (الذاتية) هي غاية الرقي، وأن الرقي هو الانتقال من الوجود المبهم السائب إلى وجود الذات، أو إلى وجود يعلم ذاته، وليس الصواب أن يقال إن تطور الإنسان كان من القرد في اتجاه السوبرمان، ولكن الصواب أن نقول إن الإنسان قنطرة من الأرض إلى السماء. من ناحية أخرى، أضاف الأستاذ العقاد –رحمه الله- في كتابه (التفكير فريضة إسلامية)، بُعداً مهماً وعمقاً جديداً لمعنى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فذكر أن هناك نوعين للمعجزة ينبغي التمييز بينهما، كي نطلب المعجزة التي يجب أن تُطلب، ونتورع عن طلب المعجزة التي لا تجدي أحداً من العقلاء. أما النوع الأول، فهي المعجزة التي تتجه إلى العقل، وهي موجودة يلتقي بها من يريدها حيثما التفت إليها، متمثلة في الاطراد المنتظم لظواهر الكون والحياة التي لا تتبدل ولا تتحول، قال تعالى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر:43). وأما النوع الثاني، فهو المعجزة التي تكون من خوارق العادات، فهي التي تدهش العقل وتضطره بالإفحام القاهر إلى التسليم، وهي ليست بحاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التي نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم وكل ساعة. والعالم الحق أحرى أن يعرف موضع العجب فيما يشاهده من سنن الله الكونية المألوفة في دوران الأفلاك وخصائص المادة وسلوك الكائنات والظاهرات، فليست أُلفته لها مما يصح أن يبطل العجب منها، ومن قال هذا فهو هازل مستخف بالمعجزة التي تخاطب العقل وتستثير ملكاته، وهو أيضاً عاجز عن أن يجد في هذه المعجزة يد العناية الإلهية التي تُسيّر حركة الكون والحياة. ومن أسف أن يغيب مثل هذا التمييز الواضح بين نوعي المعجزة عند كثير من الباحثين الذين يقفون بتفكيرهم عند حدّ التفسير العلمي للظاهرة الكونية، أو الذين يقحمون أنفسهم فيما لا يدركه العقل البشري المحدود من خوارق العادات التي لا تخضع للنواميس الطبيعية، ولا للتجارب البشرية. كذلك أدى غياب هذا التمييز الواضح بين نوعي المعجزة إلى الخلط أحياناً بين الإعجاز العلمي الذي يقصد به سبق القرآن الكريم إلى الإخبار بحقيقة كونية قبل أن يكتشفها العلم التجريبي، وبين التفسير العلمي الذي يراد به الكشف عن معاني جديدة للآية القرآنية، أو الحديث النبوي، في ضوء ما ترجمت صحته من نظريات العلوم الكونية، بمعنى أن تكون هذه العلوم في خدمة تفسير القرآن والسنة مثلما خدمته علوم اللغة والأصول والفقه وغيرها من مجالات العلوم الشرعية. وفي بيان المعجزة العلمية، من حيث طبيعتها الباقية بين يدي الناس، وتجددها مع كل كشف بشري في ميادين العلوم، وكذلك في المعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي، يقول الله تعالى: (لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا)(سورة النساء: 166). رحم الله العقاد بقدر ما قدّم وأعطى للإسلام وللأمة العربية والإسلامية، فهو يرى أن الجماعات التي تدين بالعقيدة الإسلامية التي تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجاراة الزمن حيثما اتجه به مجراه. ويرى أيضاً أن المسلمين في هذا العصر الذي تتصارع فيه معاني الحياة بين الإيمان والتعطيل، وبين الروح والمادة، وبين الأمل والقنوط، يلوذون بعقيدتهم المثلى ولا يخطئون الملاذ... لأنها عقيدة تعطيهم كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمهم من خيرات العلم والحضارة.
مشاركة :