«فلسفة الثورة» وميزان العقاد

  • 3/25/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

فى العام ١٩٥٣، حققت مجلة «آخر ساعة»، سبقًا صحفيًّا على كل الإصدارات المنافسة، إذ نشرت عبر أربعة أعداد متوالية كتاب «فلسفة الثورة» بقلم البكباشى جمال عبدالناصر، الرجل القوى فى مجلس قيادة الثورة، صحيح أن اللواء محمد نجيب كان رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس قيادة الثورة ويشغل عدة مناصب أخرى، وكانت شعبيته طاغية، حيث راح يجوب المحافظات، لكن العارفين بدهاليز السياسة، كانوا يدركون أن القوة الحقيقية داخل مجلس القيادة تتمركز حول عدة أسماء أبرزهم جمال عبدالناصر، من هنا أدرك رؤساء تحرير الصحف، معنى السبق الذى حصلت عليه «آخر ساعة»، بفضل صلة رئيس التحرير محمد حسنين هيكل، التى توطدت مع مجلس القيادة، ومع عبدالناصر تحديدًا، وتردد وقتها أن «هيكل»، هو الذى صاغ الكتاب، من يقرأ الكتاب يعثر بسهولة فيه على بعض مفردات هيكل وأسلوبه فى تلك الفترة. حدثنى منذ سنوات فى جلسة مطولة أستاذنا الراحل صلاح منتصر وكان محررًا وقتها فى «آخر ساعة»، أن الأستاذ هيكل قرأ عليهم الحلقة الأولى قبل نشرها واستمع إلى ملاحظاتهم، وأن هناك من أبلغ عبدالناصر فغضب بشدة وتوقف هيكل عن أن يطلعهم على باقى الحلقات. كانت مجلة «المصور»- تتم هذه السنة (٢٠٢٤) عامها المائة- برئاسة تحرير العظيم «فكرى أباظة» المنافس الأقوى لآخر ساعة وأقدم منها، قد حققت عدة خبطات صحفية منذ يوليو ١٩٥٢، حيث انفردت بنشر الكثير من أسرار وتفاصيل تحركات الضباط الأحرار قبل ليلة ٢٣ يوليو والأيام التالية، بل تفاصيل تأسيس تنظيم الضباط الأحرار نفسه، كان ذلك بفضل مدير التحرير حلمى سلام وكان صديقا قديمًا لمعظم هؤلاء الضباط وموضع ثقتهم، يكفى أن اللواء محمد نجيب ومعه عبدالناصر بعد عودتهما من الإسكندرية فور تنازل الملك فاروق عن العرش قاما بزيارة مؤسسة دار الهلال، حيث مجلة المصور واصطحبهما حلمى سلام ثم توجها إلى مكتب فكرى أباظة لتحيته وتقديم الشكر له على ما قامت به «المصور»، قبل ليلة ٢٣ يوليو وما تلاها من أيام. كان حلمى سلام، قبل أن يتفرغ للصحافة موظفًا مدنيًا فى وزارة الحربية وكان يعمل فى إدارة شؤون الضباط مما أتاح له التعرف على عدد كبير منهم، لكن ها هى آخر ساعة تسبق بنشر الفلسفة. لجأت «المصور» إلى أحد أبرز كتابها وكتاب دار الهلال، الأستاذ عباس محمود العقاد ليتناول بقلمه كتاب الفلسفة، وكان أن كتب «فلسفة الثورة فى الميزان»، أثار المقال جدلا ونقاشا لا يقل عن الكتاب نفسه وما أثاره، فيما بعد كانت الهيئة العامة للاستعلامات تطبع كتاب عبدالناصر وتطبع مقال العقاد فى كتيب منفصل أيضًا، لا نبالغ فى القول إن كتاب الفلسفة اكتسب أهميته فى حينه من مقال العقاد. اليوم الكتاب يعد وثيقة تاريخية وسياسية. لم يناقش العقاد التسمية، ثورة أو لا ثورة، بل وضعها إلى جوار الثورات الكبرى فى التاريخ، الثورة الفرنسية، الثورة الصينية الكبرى، الثورة التركية التى قادها الزعيم، مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، لدى ذلك الجيل كان أتاتورك رجلًا ومؤسسا عظيمًا، أنقذ بلاده من الضعف ومن الاحتلال. سوف نلاحظ أن العقاد تجاهل تماما أى ذكر أو إشارة إلى الثورة البلشفية فى روسيا (سنة١٩١٧)، كأنها لم توجد فى التاريخ، كان فى ذلك متسقا مع نفسه، لم يكن يعدها ثورة، بل رآها حركة هدامة وفوضوية، كان ذلك رأيه وموقفه دائما. فى كتاباته السابقة كان حفيًا أكثر بالثورة الإنجليزية والماجنا كارتا، لكن نراه هنا يتوقف عند الثورة الفرنسية، ثورة ١٧٨٩ وشعارها الأشهر أو مبادئها الكبرى «الحرية والإخاء والمساواة»، كذلك لدى الثورة المصرية شعار ثلاثى هو«الاتحاد والنظام والعمل»، كان كتاب الفلسفة يشرح بالتفصيل ذلك الشعار ولماذا وقع الاختيار عليه، بالأحرى كتاب فلسفة الثورة وضع من أجل تقديم ذلك الشعار، يقول العقاد عنه «شعار الثورة هو إذن شعار المصريين أجمعين بغير فارق فى وجهته ولا فى دواعيه»، ثم يقول «كل المصريين يؤمنون بدعوة الاتحاد ودعوة النظام ودعوة العمل، كل المصريين مخلصين أو غير مخلصين، فمن لم يخلص منهم لن يقول إنه يأبى العمل أو يأبى النظام أو يأبى الاتحاد». لم يكن شعار الاتحاد والنظام والعمل ظهر أو أعلن فى يوليو ٥٢ ولا فى الشهور التالية، لكنه ظهر مع تأسيس أول تنظيم جماهيرى للثورة وهو «هيئة التحرير»، قامت فى أعقاب حل الأحزاب. كان العقاد كما كتب عن نفسه يترك للصحف التى يتعامل معها أن تقترح عليه الفكرة والموضوع الذى يتناوله، كان كاتبًا متفرغا، وهكذا فإن كتابه عن تجربة السجن «فى عالم السدود والقيود»، كان من اقتراح مجلة «الإثنين والدنيا» وكذا كانت روايته الوحيدة «سارة». كان العقاد واحدًا من مجموعة كبيرة من الكتاب المهمين والمؤثرين لدى الرأى العام فى مصر والعالم العربى كله، كان هناك أستاذ الجيل لطفى السيد رئيس المجمع اللغوى، وكان هناك د.محمد حسين هيكل وأحمد أمين وطه حسين، كان العقاد وطه حسين الأبرز حضورًا والأكثر جماهيرية، فضلًا عن أنهما الأشد قبولًا لدى الحكام الجدد، لأسباب عدة، كان د.هيكل رغم قيمته المتميزة ككاتب كبير ورائد، رئيسا لمجلس الشيوخ فى العهد الملكى وبهذه الصفة صار رئيسا للبرلمان الدولى، كان كذلك رئيس حزب الأحرار الدستوريين، حزب الباشوات كما كان ينظر إليه، صحيح أنه ظل يكتب حتى رحيله بانتظام مقالًا أسبوعيًا فى باب «يوميات الأخبار»، لكنه لم يقترب ولا قرب. أحمد أمين كان مريضا وكان متفرغا للكتابة الأدبية والدراسات فى تاريخ الإسلام، فضلًا عن رئاسة تحرير مجلة الثقافة، بينما ظل العقاد وطه حسين مشتبكين مع هموم الواقع، وكل منهما له معاركه ومشاغباته السياسية والاجتماعية، من هنا كان الاحتفاء بهما خاصة من الحكام الجدد. الاحتفاء لم يكن بهما وحدهما، مثلًا فى سنة ١٩٥٤، بعد تنحية اللواء محمد نجيب، أرسل مجلس القيادة- كما روى د.إبراهيم بيومى مدكور تلميذ لطفى السيد وكما ذكر أيضا محمد حسنين هيكل- إلى لطفى السيد كى يقبل أن يكون رئيسا للجمهورية، كان أستاذ الجيل، أحد رواد الليبرالية الكبار، صاحب مقولة إن هذه أول مرة منذ ألفى عام يحكم مصر مصريون خلص، قالها عن أعضاء مجلس قيادة الثورة ونقلها عنه تلاميذه، رغم ذلك اعتذر عن عدم قبول العرض، لأن التجربة تجربتهم هم وعليهم هم أن يخرجوا ويقدموا أنفسهم للرأى العام، لا يبحثون عن رمز يقفون خلفه، كان لطفى السيد وقتها قد جاوز الثمانين من العمر، هو أحد زملاء سعد زغلول فى الوفد الذى ذهب لمقابلة المعتمد البريطانى، سنة ١٩١٨ للمطالبة بالاستقلال. من هنا كان الاهتمام والاحتفاء بدراسة العقاد «فلسفة الثورة فى الميزان»، على أن هذه الدراسة أو المقال المطول لم يكن بيضة الديك بين الأستاذ والكاتب الجبار والأوضاع الجديدة فى مصر. حين تعرض عبدالناصر لمحاولة الاغتيال فى المنشية، لم يتردد العقاد فى أن يكتب منددا بالحادث وجماعة حسن البنا التى نفذت العملية، وربما ذكرته تلك المحاولة باغتيال صديقه محمود فهمى النقراشى (باشا)، ثم محاولة اغتياله هو شخصيًا على أيدى عناصر من تلك الجماعة. إدانة محاولة الاغتيال فى المنشية تعكس موقفا مبدئيًا وإنسانيا من القاعدة الشريرة، التى تنتهجها الجماعات السرية/ الإرهابية.. «القتل غيلة»، لكنها لا تنم بالضرورة عن إيمان أو تأييد سياسى لمن تعرض لمحاولة الاغتيال، خطر الإرهاب يجب التصدى له، يكون ذلك أولوية أولى، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف السياسى مع من يقع عليهم الإرهاب، لكننا هنا وبعيدا عن محاولة الاغتيال وعن كراهيته ورفضه لتلك الجماعة، نجد تأييدًا سياسيًا لكثير من خطوات وسياسات تلك المرحلة. لدينا- نموذجًا- سياسة التصدى للأحلاف وصفقه الأسلحة التى وقعتها مصر سنة ٥٥، مع تشيكو سلوفاكيا. فى العدد الأول من عام ١٩٥٦ بمجلة المصور (٧ يناير) كتب العقاد مقالا يرصد فيه أهم أحداث العام المنصرم، أهمها عنده مؤتمر باندونج وسياسة التصدى للأحلاف العسكرية، كتب عن باندونج أنه «يدل على أن أمم الشرق قد وقفت على قدميها وأثبتت وجودها وفتحت طريق الاتصال فيما بينها، وليس هذا بالشىء القليل، لأنه لم يحدث قط قبل هذا العصر فى تاريخ الشرق الطويل»، كان رهانه كبيرًا على الدول التى شاركت فى هذا المؤتمر فى أن تنقذ حتى الدول الكبرى نفسها من شرورها. اعتبر العقاد صفقة الأسلحة التى أعلن عنها جمال عبدالناصر نموذجًا لكسر سياسة الأحلاف العسكرية فى العالم وفى المنطقة، فضلا عن أنها تمثل تصديًا لمحاولة الغرب للهيمنة على بلادنا والمنطقة كلها. الحديث ممتد.

مشاركة :