بدا لبنان أمس مرتاحاً إلى مسار القمة العربية التي استضافها الأردن، ولا سيما أن نتائجها تَجاوَزت هدف تمرير هذا «الاختبار» بأقلّ الأضرار، إذ شكّلت مناسبةً لتأكيدٍ ذي دلالات لاحتضان العرب للتسوية السياسية التي كانت أنهتْ الفراغ الرئاسي قبل 5 أشهر وتالياً تجديد «مفاعيلها» التهْدوية الداخليّة، كما أنها قطعتْ الشكّ باليقين حيال الموقع الراسخ لرئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية التي بادرتْه بلفتة مَلَكية استثنائية تولاها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز شخصياً باصطحابه معه الى الرياض في طائرته الخاصة، في خطوةِ تردّدتْ أصداؤها بقوة في بيروت التي رصدتْ باهتمام كبير لقاءات زعيم «تيار المستقبل» في المملكة وخصوصاً مع ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.وبمعزلٍ عن ملابساتِ نأي العرب بأنفسهم، في «إعلان عمّان»، عن الإشارة إلى إيران بالاسم في سياق تأكيد رفضهم «كل التدخلات في الشؤون الداخلية للدول العربية والمحاولات الرامية لزعزعة الأمن وبث النعرات الطائفية والمذهبية» كما عن تصنيف «حزب الله» بـ «الإرهابي»، فإن لبنان الرسمي استفاد من اللحظة الاقليمية التي يُخشى أن تكون مقبلة على «هبّات ساخنة» محورها إيران، لتوجيه رسالة، ولو سارتْ «بين النقاط»، الى أنه عاد الى الحضن العربي وأنه جزء لا يتجزأ من هموم العرب وقضاياهم، وهو ما عبّر عنه تطوران: عدم تحفُّظه عن أيّ بند في «إعلان عمّان»، وكلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي اختار «الوجدانيات» كأقصر الطرق لتفادي أي مواقف تستفزّ العرب لا سيما دول الخليج، أو تربك لبنان الذي كان ما زال يواجه التداعيات السلبية لكلام عون إبان زيارته مصر والتي اعتُبرت «شرْعنة» لسلاح «حزب الله» الذي يشكّل بالنسبة إلى دول الخليج الذراع الأبرز لإيران في انخراطها العسكري في ساحات مشتعلة عدة، سيما سورية واليمن.وفي حين لاقتْ كلمة عون أصداء إيجابية جداً في أروقة قمة عمّان وقوبلتْ بارتياحٍ في بيروت عبّر عنه «حزب الله» بوضوح، فإن أوساطاً سياسية لبنانية تعاطتْ معها على أنها بمثابة أخذِ مسافة للبنان الرسمي عن كل أدوار «حزب الله» في المنطقة وتعبيرٍ عن مقاربةٍ ترتكز على تحييد بيروت نفسها عن الاستقطابات الاقليمية.في المقابل، ذهبتْ أوساط سياسية معارِضة في قوى «14 آذار» الى اعتبار خطاب عون بمثابة «هروب الى الأمام» وانزلاقٍ إلى تصوير المشكلة على أنها عربية - عربية عوض كونها عربية - ايرانية، ناهيك عن عدم قدرة لبنان على اعتبار نفسه «جسراً للحوار» في ظلّ وجود فريق أساسي فيه، أي «حزب الله»، كـ «رأس حربة» في الحروب التي رفع رئيس الجمهورية الصوت بوجهها.ولاحظ رئيس كتلة «المستقبل» فؤاد السنيورة، وهو أحد موقّعي رسالة الرؤساء الخمسة السابقين الى القمة والتي حملتْ مقاربة مناهِضة لـ «حزب الله» وأدواره وتحدّثتْ عن «السلاح غير الشرعي» والحاجة لتحييد لبنان واحترام القرار 1701، تعليقاً على خطاب عون انه «ربما تكون هذه وسيلة لتفادي الاحراج والخروج من المأزق، كمن يقف على سطح ناطحة سحاب ويروي ما يشاهده».وفي موازاة خطاب رئيس الجمهورية الذي سار «بين الألغام»، فإن الدول العربية بدت مرِنة في تفهُّمها تعقيدات الواقع اللبناني من خلال إسقاط اي تحفُّظ عن بند «التضامن مع لبنان» الذي أُقرّ كما هو (تضمّن 9 نقاط) وبالإجماع، متضمّناً نقاطاً بارزة، سيّما التشديد على «حق اللبنانيين في مقاومة اي اعتداء بالوسائل المشروعة وعلى أهمية وضرورة التفريق بين الارهاب والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال الاسرائيلي التي هي حق أقرّته المواثيق الدولية ومبادىء القانون الدولي، وعدم اعتبار العمل المقاوم عملاً ارهابياً»، مع «ترحيب بانتخاب العماد عون رئيساً وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة سعد الحريري».وفي حين تمّ التعاطي مع هذا التطور على أنه في سياق تحصين التسوية التي كانت أفضتْ، بـ «عدم ممانعة» اقليمية، الى انتخاب عون رئيساً في 31 اكتوبر الماضي وعودة الحريري الى رئاسة الحكومة، وأيضاً في إطار تفادي المس باستقرار لبنان في لحظة تحولات خطرة ربما تقف المنطقة على مشارفها، فإن الجانب الموازي الذي لا يقلّ أهمية في القمة تمثّل في ما ظهّرته من عودة الدفء رسمياً الى العلاقات بين السعودية والحريري الذي حرص الملك سلمان على ان يصطحبه معه إلى الرياض على متن الطائرة الملكية، بعد ان كان الحريري رافق خادم الحرمين الشريفين في الطوافة من البحر الميت إلى عمّان، وذلك في أعقاب مصافحة حميمة لفتت الأنظار بين زعيم «المستقبل» ووليّ العهد الامير محمد بن نايف.وفي حين برز أمس اللقاء الذي جمع الأمير محمد بن سلمان والرئيس الحريري، والذي تطرق الى العلاقات الثنائية بين البلدين والأوضاع في المنطقة، فإن هذه الزيارة اكتسبتْ دلالات بارزة ليس فقط لأنها الأولى الرسمية للحريري للرياض منذ تشكيله الحكومة، بل لأنها جاءت لتقطع الشك باليقين حيال مكانة زعيم «المستقبل» في المملكة.وذهبتْ دوائر سياسية في بيروت الى اعتبار أن الحريري الذي كان التقى مطوّلاً الملك سلمان، فاجأ الكثير من الأقربين والأبعدين مجدداً، في سيناريو مشابِه لما كان حصل إبان التسوية الرئاسة، إذ بقي كثيرون حينها وحتى ربع الساعة الأخير يتساءلون عن موقف السعودية منها وإذا كانت تغطّي الحريري في دعْمه ترشيح عون، ليتضّح لهم وجود هذا الغطاء.وحسب هذه الدوائر، فإن توقيت استقبال الحريري في الرياض جاء في غمرة علامات استفهام حول دوافع رسالة «الرؤساء الخمسة» الى القمة واعتبارها ملاقاةً للموقف السعودي المتشدّد حيال «حزب الله» وايران وامتعاضها المفترض من الموقف الرسمي اللبناني بعد تصريحات عون، فإذا بالإحاطة الاستثنائية للحريري تعكس أن التفسيرات التي أعطيت للرسالة لم تكن في محلّها.
مشاركة :