نادرون هم الشعراء الذين يتحوّلون في بلدهم إلى أسطورة بعد وفاتهم. الياباني إيشيكاوا توكوبوكو (1886 ـ 1912) هو من دون شك واحد من هؤلاء، وإلا كيف نفسّر تسمية كويكب اكتُشف عام 1988 باسمه، أو الرواية المصوَّرة الشهيرة التي استقيت مادّتِها من حياته، أو حتى مقارنته بصاحب «فصل من الجحيم» وتلقيبه بـ «رامبو الياباني»؟ المقارنة صائبة على أكثر من صعيد، على رغم اختلاف أسلوب كتابة هذين الشاعرين وظروف حياتيهما. فمثل رامبو، تابوكوبو هو شاعر الفتوة والتمرّد، وصاحب ديوانين شعريين كتبهما باكراً قبل أن يرحل عن هذه الدنيا في سن السادسة والعشرين. ولأنه الصوت الأكثر تحرراً من بين شعراء جيله، يُعتبَر رائد الشعر الياباني الحديث. أكثر من ذلك، تتحلّى قصائده بنبرة فريدة تميّزه عن سائر شعراء جيله. فبينما ركّز هؤلاء في قصائد الـ «هايكو» والـ «تانكا» التي كتبوها على تأمُّل عالمٍ منمنَم، كجبل «فوجي» أو شجرة كرز مزهِّرة، واستلهموها من الطبيعة المتحوٌلة أبداً، سعى تابوكوبو في قصائده إلى الإمساك بهشاشة حياة الإنسان وبؤسها. لكن المقارنة برامبو تتوقف عند هذا الحد لأن تابوكوبو هو قبل أي شيء شاعر فريد سواء بشخصيته أو بقدره أو بكتابته. شاعر أصبح بإمكاننا اليوم قراءة ديوانه الثاني «اللعبة الحزينة» (1912) إثر صدور ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أرفويان» الباريسية التي سبق ونشرت لهذا العملاق ثلاثة كتب شعرية: «أولئك الذين ننساهم بصعوبة (1979)، «دخان» (1989)، و»حبُّ نفسي» (2003). أعمال استُقيت نصوصها من الديوان الأول «حفنة تراب» (1910) الذي يتضمّن أكثر من 500 قصيدة «تانكا». وتجدر الإشارة هنا إلى أن الـ «تانكا» هي قصيدة يابانية قصيرة تتكوّن من 31 مقطعاً صوتياً (7ـ7ـ5ـ7ـ5)، وقد انبثقت منها قصيدة الـ «هايكو» إثر تكثيف مقاطعها الصوتية (5ـ7ـ5). ومنذ انطلاقته، مارس تابوكوبو هذا النوع الشعري وسعى إلى تجديده، ليس فقط على مستوى المضمون، بل الشكل أيضاً. من هنا إدخاله على قصيدته الترقيم الغربي، مثلاً. ومع أننا نستشفّ في قصائده ما يميّز التقليد الشعري الياباني، أي مركزية التأمّل المباشر، لكن موضوع هذا التأمّل ليس الطبيعة، كما سبق وأشرنا، بل المدينة وتقلّبات الحياة اليومية الحديثة فيها. تأمّلٌ يمكن أن يطاول أيضاً ما يحدث داخل إدراك الشاعر، وفي هذه الحال، يبقى مصدرَ القصيدة حدثٌ مثير وموقظ، بينما يقع محرّض كتابتها داخل الفكر. وبالتالي ما هو جديد ومميز لمسعى توكوبوكو هو العناية المرصودة لانبثاق الفكرة وفيض الإدراك: «كما لو أن لا نهاية لهذا السير/ تنبثق أفكاري/ في قلب الليل، من شارع إلى شارع». انبثاق لا يعني أبداً الشروع بتحليل أو استبطان أو تأويل داخل القصيدة، بل مقاربة الفكرة المنبثقة كحدث معادل لحوادث العالم الخارجي التي تنجبها. ومن هذا المنطلق، لا تحضر الفكرة كمعالجة شعرية لشيء تمّت مشاهدته، بل كمعطى خام أو عنصر من الواقع. أما نجاح القصيدة فيكمن في العثور على تلاؤم بين الفكرة والحدث الذي شكّل ظرف انبثاقها. تلاؤم لا يخلو أحياناً من سخرية من الذات: «أشخصُ بهاتين اليدين الوسختين ـ ـ/ تشبهان/ بدقّة روحي هذه الأيام». باختصار، تعادل قصيدة توكوبوكو بين العالمين الداخلي والخارجي وتقول ذلك التواصُل بينهما عبر تكثيفه، ولكن بخفّة. وبينما تسعى القصيدة الغربية إلى تقييم المدهش بطريقة مبالغ بها، أو إلى الإمساك بمعنى أو تجلٍّ خلف الحدث، تركّز قصيدته على ما يحدث ويتركنا بحدوثه حائرين أو مذهولين، مثلها مثل كل قصائد الـ «هايكو» والـ «تانكا». وفي هذا السياق، مسألة التفاهة أو العمق غير مطروحة فيها، فالمهم، وما يجدر تدوينه، هو حضور العالم والفكرة (أو الشعور) بشكلٍ متداخل وملتبِس يمنحهما نكهتهما الفريدة: «يا للحزن في هذا النهار الجميل!/ منحنياً على نافذة غرفة المستشفى/ أستمتع بسيجارة». بعبارةٍ أخرى، يشكّل التزامن والآنية فضيلتَي القصيدة الأوليتين: «حلّ الصيف فجأةً/ كم ممتعٌ ضوء المطر/ في عينيّ المتماثل للشفاء». أما ما يميّز ديوان «اللعبة الحزينة» ويجعله أكثر تأثيراً في نفوسنا من الديوان الذي سبقه فهو كتابة توكوبوكو معظم قصائده خلال الشهور الأخيرة من حياته التي صارع فيها مرض السلّ. قصائد تشعّ ألماً وكآبةً، ولا يتجنب الشاعر فيها مشاعره وأفكاره السود، بل يستقبلها ككمٍّ من الحوادث ويتقبّلها من دون أي تجميل أو مبالغة في وصفها. قصائد تعمل مثل «لعبة حزينة»، أي كشيء يبدو في ظاهره مسلّياً يلهيه عن مرضه، لكنه في الحقيقة، وبجدّيته، يعود به إلى قلب واقعه. دمية تتحلّى بمشاعر، وبالتالي حيّة، لكن الحزن هو الذي يحييها. وفعلاً، يتجلى هذا الحزن منذ القصيدة الثانية: «مع أني أغلقتُ عينيّ/ لم يظهر أي شيء لي/ بحزنٍ فتحتهما من جديد». حزنٌ يحضر على طول الديوان بأشكال مختلفة ويسائل الشاعر بعمقٍ، قاضّاً مضجعه وغائصاً به في قلقٍ وجودي: «هل هذا هو إذاً/ حزن الإنسان الأكبر؟/ فجأةً أغلق جفنيّ بشدّة». حزنٌ مبرَّر حين نعرف أن مرض السلّ كان يعذّب الشاب توكوبوكو على مدار الساعة، وأن مآله الأسوَد كان واضحاً ولا مفرّ منه. وفي حال أضفنا بؤس المقاطعة التي كان يعيش فيها، ولوم زوجته الثابت له على فقرهم المدقع، وبكاء ابنته الدائم، وعمله كموظف متواضع الذي كان يحاول عبثاً مغادرته، لفهمنا محنته وبكاءه حتى لدى هطول المطر، وضياعه الذي سيتفاقم لدى ملازمته السرير في المستشفى ويجعله في النهاية عاجزاً عن التعرّف حتى إلى ذاته: «كأنها غريبة عنّي هاتان اليدان، هاتان القدمان/ هذه اليقظة البليدة/ هذه اليقظة الحزينة». وحين نصل إلى هذه النقطة، حين نفقد رغباتنا الماضية ولا يعود يتبقى أمامنا سوى انتظار المنيّة الوشيكة، كيف نشغل نفسنا؟ باعتبارات صغيرة، كلون «سلطة طازجة» أو «ضوء المطر» أو باقة زهور أو ملامح طفلٍ نائم. وبالكتابة طبعاً، كتابة قصائد لا تعكس فقط نفْساً مهمومة ولا عزاء لها. فخلف المرض والكآبة وعوارضهما، نستشفّ في بعض نصوص توكوبوكو حسّاً دعابياً عالياً وروحاً طفولية ماكرة وساخرة. ولا شك في أن استسلامه لهذه الروح من حينٍ إلى حين غايته ترفيهية وأيضاً إثبات توكوبوكو لنفسه بأنه ما زال يتحكّم قليلاً بواقعه أو قادراً على التلاعب بهذا الواقع والهزء منه. هكذا نقرأ القصيدة الآتية: «شددتُ اللحاف فوق رأسي/ طويتُ ساقيّ/ ومددتُ لساني بلا سبب». باختصار، قصائد مؤثّرة ترافق قارئــها برقّة وتمدّه بإشـــراقات لا تحصى، وتشكّل كل واحدة منها تطبيقاً مثيراً وفريداً لما قاله توكوبوكو، في معرض وصف فنّه الشعري: «في حال أنشدنا بحرّية ما يلهمنا، من دون أن نترك أي شيء يحدّنا، ذلك الذي نسمّيه الشعر ـ ذلك الانــفعال الخـــاص بكل لحظة (والناتج) عمّا يبرق ويتوارى في القلب داخل حياتنا المنشغلة ـ أبداً لن يموت». مختارات شعرية في الطريق، نزوةٌ، لن أذهب إلى العمل، اليوم أيضاً سأمضي للتسكّع على ضفة النهر. * بينما تلعب طفلتي في الخارج أُخرِجُ قطارها الصغير، وألهو بتسييره. * أريد شراء كتب! أريد شراء كتب! هذه الكلمات المجرّدة من المكر، سأحاول قولها لزوجتي. * الزوج منشغلاً بفكرة السفر! الزوجة غاضبة، الطفلة تبكي! يا لهذه الجلسة عند الصباح! * ضاغطاً على ضرسي التي تؤلمني، لاحظتُ ارتفاع الشمس، قرمزية في ضباب الشتاء. * بعيدة الآن تلك الصباحات الشتائية! كنت أشرب كوب ماء، وكان بخاره يغلّف وجهي. * مفتوناً، أتأمّل صوراً في كتاب... كي أرى، أنفخ دخان سيجارتي. * اليوم أيضاً سأشرب الـ «ساكيه»! حين نشربه بانتظام نتبنّى عادة الغثيان. * منذ لحظة، همستُ بشيء. وأنا أفكّر به، أغلقُ عينيّ وأستسيغ النشوة. * كما لو أنني أقول في سرّي: فليكن ما يكون. هذه الفترة، أُخيف نفسي. * وأنا أفتح صحيفة هذه المقاطعة البائسة، أرى الأخطاء فيها. حزنُ هذا الصباح. * مثل قطارٍ يقطع البراح، هذا العذاب، من حينٍ إلى حين، يعبر ذهني. * أنا على يقين بأن فجراً جديداً يقترب. كلمات مجرّدة من الكذب ومع ذلك ـ ـ * الرضا الهزيل لغسل يديّ الوسختين سيكون رضاي الوحيد هذا اليوم. * نهار رأس السنة، يهدأ قلبي! أنا مغتبط كما لو أنني نسيتُ كل ماضٍ. * تلك الإثارة التي أدركتني حتى أمس، من الصباح إلى المساء، أحاول أن لا أنساها. * من أحشائي يتفتٌح تثاؤبٌ، أتثاءب طويلاً كي أرى. إنه اليوم الأول من هذا العام. * جميع الناس يسيرون في الوجهة ذاتها. على حدة أنظر إليهم يعبرون. * كما لو أن شيئاً جيداً يمكن أن يحدث غداً، هذا الشعور أكبته وأنا أستسلم للنوم. * هل هو تعب العام الذي عبر؟ مع أنه يوم رأس السنة، أستسلم للنوم. * بسرعة مرّت الأيام الأولى من هذه السنة. حياتي ستأخذ من جديد إيقاعها الرتيب * تلك الساعة التي أعود فيها إلى داري، لم أفعل سوى ترقٌبها. اليوم أيضاً اشتغلتُ. * من تلك الشابة المتزوجة التي تعيش في مزرعة إيشيكاري في مقاطعة سوراشي استلمتُ زبدة. * في تلك الفترة، لم أنتبه إلى ذلك لكن يا للأخطاء الغزيرة في قصائد الحب القديمة هذه! * «هكذا إذاً، لا ترغب في العيش؟» بهذه الكلمات توجّه إليّ الطبيب. لازمتُ الصمت. * في منتصف الليل أستيقظُ فجأةً، بلا سبب أرغب في البكاء، أغطٌي رأسي باللحاف. * أكلّمه ولا أتلقّى أي جواب، أنظر، إنه يبكي، المريض الممدد قربي. * في وقت متأخّر من الليل جلبة في إحدى الغُرَف هل لأن شخصاً توفّي؟ أمسكُ بأنفاسي. * يد هذه الممرضة، وهي تقيس نبضي، تارةً دافئة وتارةً باردة وقاسية. * حين أستيقظ، يؤلمني جسدي ولا أقوى على الحراك. أرغب في البكاء وأنتظر الفجر. * مبللاً بعَرَقٍ ليلي، عند الفجر، هذا الحزن الثقيل بين نعاسٍ ويقظة. * ذلك الحزن الملتبس، عند حلول الليل، يصعد إلى سريري ويتغلغل فيّ. * «لقد تعرّفتُ إلى ما في عمق قلبكَ»، تراءت أمي لي في حلمٍ ورحلت دامعةً. * إلى أن تسهر ممرضة على راحتي طوال الليل، سيتفاقم مرضي. هذا ما أرغب فيه سرّاً. * منذ أن دخلتُ المستشفى، عدتُ إلى أناي الحقيقية التي تحبّ المرأة والطفل. * فجأةً أرى نفسي كماً من الأكاذيب، أغلق جفنيّ بشدّة. * كل ما حصل حتى الآن، كل ما أردتُ تحويله إلى أكاذيب، لم يواسِ قلبي قط. ترجمة أنطوان جوكي
مشاركة :