أنجز الرسام «الفطري» الفرنسي هنري روسو، المعروف بـ «الجمركجي» طوال مساره الفني الطويل، عدداً كبيراً من اللوحات التي تصور مشاهد في الغابات. وكان العدد الأكبر من تلك اللوحات يصوّر نزهة في الغابة غالباً ما تقوم بها امرأة وحيدة تتراوح مشاعرها بين الاطئنان المطلق والقلق المعتدل. لكنهن كن دائماً نساء أنيقات هادئات لا يفوت المرء أن يشعر بالاستغراب، أو حتى بالحيرة لمرآهنّ هناك. لكن هذا المرء إذ يطّلع أكثر وأكثر على تجربة روسو الفنية، سيتنبه في نهاية الأمر، الى أن حضور المرأة في اللوحة ليس في حقيقة أمره سوى ذريعة لإضفاء مسحة إنسانية، ويا حبذا أن تكون أنثوية، على مشهد يرسمه الفنان ويريد منه أن يكون جماليّ البعد، يمكّنه من أن يري براعته أولاً وقبل أي شيء آخر، في رسم تفاصيل الأشجار والغابات، ولا سيما تفاصيل الأغصان والأعشاب التي من الواضح أنها أكثر ما يهمه في اللوحة. > ففي نهاية الأمر، حتى إذا كان مشهد الغابة وحضور الكائن البشري فيها يعطي العمل الفني أبعاد تشويق وترقّب، من الواضح أن الشيء السيكولوجي الذي يرتبط بمثل تلك المشاعر، كان آخر ما يهم ذلك الفنان الذي بسّط دائماً مواضيعه كي يتمكن من أن يضفي أعلى درجات التعقيد على أشكاله. > والحقيقة أن هذا البعد الماثل واضحاً في فن روسو بدأ لديه باكراً، وبخاصة في سلسلة لوحاته حول الغابات والمواعيد المضروبة فيها والنزهات التي تشهد عليها لنساء، وأحياناً فقط لرجال، يتريّضون أو يتأملون أو يَعْبرون بكل بساطة. فنحن اذا عدنا مثلاً الى عام 1886-1890 ، سنجده في لوحته المبكرة «نزهة في الغابة»، وهي لوحة ذات مقاسات كبيرة مقارنة بإنتاجه في تلك المرحلة، سنجده يستخدم كل أنواع النباتات وألوان الطبيعة - وكانت ملوّنته لاتزال محدودة، وبالتالي منطقية في ذلك الحين - ليصور مشهداً لامرأة، سوف يقول مؤرخو حياته لاحقاً، إنها زوجته الأولى إنما من دون أن يتمكن أحد من تقديم دليل على ذلك. لكن روسو اعتاد في تلك المرحلة المبكرة على الأقل من استخدام المقربين منه كموديلات. المهم أن تلك اللوحة التي قد يصعب ربطها بعمل روســو اللاحق إذ قلل فيها الى حد لا يصدق من كثافة العشب وأسبغ عليها تكويناً لا ينتمي الى الفن الفطري بقدر ما ينتمي الى نوع خاص جداً من تيار ما بعد الانطباعية، قدم عملاً متكاملاً متناسقاً كان من شأنه لو سار على خطوطه التكوينية أن يصل في فنه الى واقعية من الواضح أنه لم يُرد أصلاً الوصول اليها. > من هنا، حتى ولو انتمت هذه اللوحة في نهاية الأمر الى فن روسو - أو على الأقل، الى القسم البالغ التنوع منه والمرتبط بنوع من اختلاط يريد منه الفنان أن يقترح عليه الطريق التي يتعين السير فيها - فإنها تكشف عن أعلى ما فنه من تماسك. ولسوف يأسف كثر على أي حال لأن روسو لم يسر على درب «الواقعية» تلك. أما بالنسبة الى هذه اللوحة المعلقة الآن في الـ «كونستهاوس» بمدينة زيوريخ السويسرية، فتقول الحكاية إن الباحث أوهدي الذي كان من أول مؤرخي حياة روسو ودارسي أعماله-اكتشفها بعد موت الرسام، في دكان كوّى كان روسو يتعامل معها، فاشتراها بأربعين فرنكاً، ليبيعها بعد ذلك بسنوات بستة وعشرين ألف فرنك في مزاد علني عام 1921 ( وهو نفس المزاد الذي بيعت فيه لوحة بيكاسو «السيدة والماندولين» بثمانية عشر ألف فرنك)! > عندما أطل هنري روسو على الحياة التشكيلية الفرنسية انقسم الناس حياله، وحيال اعماله بالطبع الى قسمين، قسم أدرك عمق شاعريته وغرابة مواضيعه وأجوائه، وأن ذلك الأسلوب «الفطري» أو «الساذج» الذي كان يعتبر في ذلك الحين احد كبار وأوائل مبدعيه، سكيون له شأن ما في فنون القرن العشرين، وقسم ثان يأخذ على لوحات روسو، وبالتحديد، تلك «الفطرية» التي تطبعها، والتي كان يرى فيها اسلوباً صالحاً للوحة واحدة أما اذا تكرر في لوحات عديدة فإن المسألة لا تعود مرتبطة بالفن الإبداعي، بل بالعمل الحرفي. > غير ان المكانة التي احتلها روسو خلال الربع الأخير من القرن الفائت والتي أمّنت له شهرة واعترافاً رافقاه حتى رحيله عن عالمنا في أيلول (سبتمبر) 1910، اتت بعد ذلك لتؤكد انتصار اصحاب الرأي الأول على أصحاب الرأي الثاني، ما جعل اسلوب روسو يعتبر مكوناً اساسياً من مكونات الحداثة الفنية، حتى وإن تمكن نقاد الفن ومؤرخوه بعد ذلك من ايجاد روابط ما تصل بين اسلوب روسو وأساليب أخرى كانت قد سادت في عصر النهضة وما بعده، ووصلت الى ذروتها مع فنان مثل ارشمبولدو. > في تاريخ الفن عرف هنري روسو بلقب «الجمركجي»، وذلك بسبب الوظيفة المتواضعة التي كان يشغلها من دائرة الجمرك في باريس. وكذلك عرف بتوجهه الفني الذي جعله يعتبر على هامش كل أساليب التعبير الفني في عصره، هو الذي كان عمله يبدو تأسيسياً لا يستند الى أية تقاليد سابقة عليه. والحال ان السمة الأساسية التي طبعت اعماله كانت سمة شاعرية الخيال، والعفوية المطلقة. لكنها كانت عفوية خداعة على أي حال.. لأننا اليوم، إذ نتأمل لوحات الجمركجي روسو، المعلقة نسخاً في معظم البيوت، يمكننا أن نكتشف أنها لم تكن على تلك الفطرية والسذاجة، بل كانت بساطتها مدروسة بعناية ومتعمدة تخفي وراءها روحاً تواقاً إلى عوالم الغرابة والهروب من واقع ما. وكأن الفنان شاء هنا ان يخلق لنفسه عوالم موازية ترتبط بالرغبات الطفولية والأحلام الرومانسية. > ولد هنري روسو في لافال في 1844، وعاش الأربعين عاماً الأولى من حياته عيشة غامضة في منأى عن الأوساط الفنية، اما بدايات ظهوره الحقيقية فكانت في 1885، حين بدأ يعرض وبانتظام في صالون المستقلين. ولقد حقق من النجاح والدهشة الفورية إزاء عمله، ما جعله يتقاعد عام 1894 من وظيفته ليتفرغ للرسم نهائياً، وظل ذلك دأبه حتى رحيله في 1910. غير ان نجاح روسو الفوري لم يضمن له اعتراف النقاد الذين راحوا يتساءلون باستنكار عن جدوى ذلك الفن الطفولي. ولكن، في المقابل، تمكنت لوحات روسو الأولى من ان تثير حماسة الأوساط الفنية الطليعية ولا سيما الرسام روبير ديلوني وبيكاسو والشاعرين الفريد جاري وغيوم ابولينير، اللذين راحوا يدافعون عنه بحرارة. > خلال المرحلة الأولى من عمله الفني انكبّ روسو، بخاصة، على رسم المشاهد الغريبة، وحين كان أحد يسأله عن الأمكنة والخلفيات التي يستمد منها مواضيع لوحاته، كان يجيب كاذباً أنه انما يستمد صوره من رحلة قام بها الى المكسيك... واليوم نعرف عن يقين ان روسو لم يقم بأية رحلة الى هناك، اما النباتات الإستوائية التي ملأت لوحاته الأولى، فإنه لم يشاهدها الاّ داخل حديقة النباتات في باريس. > لكن روسو لم يكتف برسم المشاهد الطبيعية والغرائبية والإستوائية، بل انه اخذ بالتدريج يهتم برسم مشاهد الحياة اليومية، ولكن على الدوام ضمن اطار اسلوبه الفطري الطفولي، وهكذا حقق لوحات اشتهرت ولا تزال مثل لوحة «العرس» و «عربة السيد جونييه». ولعل اهم ما طبع لوحات روسو تلك هو قدرته الهائلة على تحويل اكثر المواضيع والمشاهد عادية الى عالم مليء بالسحر والحلم. > بل لعل تأملاً نقوم به اليوم لبعض لوحات روسو يكفينا لإدراك الدهشة التي كانت تصيب معاصريه امام عمل حققه فنان علّم نفسه بنفسه، فمن صرامة تكويناته (في «ساحرة الأفاعي») الى قوة البعد الحلمي (في «البوهيمية النائمة») الى غرابة المشهد وقوته التعبيرية (في لوحة «الحرب»)، تراوحت اعمال روسو لتخلق اسلوباً فنياً جديداً، لم يكن ليخامر صاحبه يوماً في انه سيكون واحداً من اساليب الفن التشكيلي في القرن العشرين، الى درجة ان اندريه بريتون، شيخ السوريالية لم يتوانَ عن التعبير عما تدين به السوريالية لذلك الجمركجي البسيط الذي «تقوم لوحاته على حجر الزاوية للإبداع، الإبداع الذي لا يمتلك في نهاية الأمر سوى القدرة على ان يستكمل في اعماقنا الحنين الى الطفولة».
مشاركة :