القاهرة: «الخليج» اتخذت مسز «جون مارش» اسم مرجريت متشل لتضعه على غلاف روايتها «ذهب مع الريح» التي منحتها الشهرة والخلود، وقد استغرقت كتابتها ما يزيد على ست سنوات، وجعلت بؤرتها قصة حب بين شخصيتين مغامرتين هما «سكارلت أوهارا» و«رت بتلر» وأدارت حول هذا الحب المعقد أحداث الفترة التاريخية والاجتماعية.طريقة المؤلفة في كتابة الرواية تدعو إلى العجب، إذ كانت تكتب فصولها الكثيرة بغير نسق، فبعد الفصل الرابع قد تكتب الفصل الثلاثين، وبعده قد تكتب الفصل العاشر، ثم تكتب الفصل الأخير، وليس ذلك ممكناً بطبيعة الحال إلاّ إذا كانت المؤلفة تستحضر في ذهنها حلقات الرواية بجميع تفاصيلها وتشعباتها، وتتمتع فوق ذلك بذاكرة جبارة، لا يفوتها شيء.وهذا يدل على امتلاء الكاتبة بروايتها، فهي تعترف بأنها كانت تعيد كتابة الكثير من فصول الرواية مراراً، لأنها لا تجدها مطابقة للأصل الماثل في ذهنها، ويقال إن بعض فصول الكتاب قد أعادت كتابته سبعين مرة، لقد كانت مرجريت متشل مريضة، قعيدة الدار، طريحة الفراش، وهي في قمة حيويتها، تعيش أحداث القصة، فكأنها لم تكن تكتبها رغبة في الكتابة بل كانت تكتبها تحقيقاً لذاتها، ولم تكن محاولات نشرها إلاّ «إبراء للذمة» حتى لا تشعر بأنها قصرت في حق عملها، فقد شاءت الصدفة أن يقبل أحد الناشرين طباعة القصة الضخمة، واختارها نادي الشهر لجائزة أحسن كتاب، وبيع منها في الشهور الستة الأولى أكثر من مليون نسخة، وكان يباع منها في اليوم الواحد 50 ألف نسخة، وفي سنة 1937 فازت الرواية بجائزة بوليتزر وبلغ عدد النسخ التي بيعت في أمريكا وحدها في السنوات الست الأول ثمانية ملايين نسخة، وتم عرضها على الشاشة، حيث قامت الممثلة فيفيان لي بدور سكارلت أوهارا، فكانت من أطول الروايات التي أنتجتها السينما.وهكذا هبطت الشهرة على مرجريت متشل، ومعها ملايين الدولارات، وقد صقل على تلك الكاتبة المحبة للاعتكاف أن تتحول حياتها الخاصة الهادئة إلى المشاع، ولما قامت الحرب العالمية الثانية، أسهمت فيها مرجريت متشل، ووقفت جهودها على التمريض في المستشفيات العسكرية، وما إن آذنت الحرب العالمية على الانتهاء حتى نكبت في زوجها ووالدها، وبعد ذلك بقليل وضعت الأقدار حداً لحياة مرجريت متشل في حادث تصادم وهي في التاسعة والأربعين من عمرها.ولدت متشل في مدينة أتلانتا بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1900، وفيما بين سنتي 1921 و1926 عملت صحفية ومحررة في صحيفة «أتلانتا جورنال» وتوطدت علاقتها برئيس التحرير فتزوجا سنة 1925، ثم اعتزلت العمل الصحافي، لتتفرغ لشؤون البيت، خصوصا أنها منيت في تلك السن المبكرة بداء هو روماتيزم المفاصل، جعل الحركة الكثيرة مصدر ألم لها.وكان في ذلك فرصة لإشباع حبها للكتابة، وكان الحافز الذي أطلق خيالها في هذا الاتجاه ما سمعته في طفولتها وصباها الباكر من أفواه المسنين، لاسيما من طائفة الخدم الزنوج عن أحداث الحرب الأهلية، وما جرى على ألسنة الناس من ذكر مشاهدها وويلاتها.لم يكن شغف متشل بتاريخ تلك الفترة شغفاً علمياً منهجياً جافاً، بل كان شغفاً حياً متجسداً في إطار الفن، ولا تستخدم مادة التاريخ إلاّ لخدمة الأغراض الفنية والتصوير الإنساني النابض، فكان من المحتم إذن أن يثمر هذا الشغف عملاً من أعمال الفن، يستخدم التاريخ أداة من أدواته ليجسده واقعاً حياً من خلال عواطف الناس وتفكيرهم وتصوراتهم الاجتماعية وقيمهم الفردية والجماعية.ومنذ أن اعتكفت متشل في بيتها سنة 1926 وهي تقرأ وثائق لا حصر لها عن تاريخ فترة الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب، بسبب أزمة تحرير العبيد التي أثارها الرئيس إبراهام لينكولن، فتجمع لديها حتى سنة 1930 مادة تاريخية وحقائق اجتماعية ضخمة، عن تلك الفترة من تاريخ أمريكا، وحين شعرت بالامتلاء شرعت في الكتابة وكان هذا العمل هو الوحيد الذي لم تنتج غيره إلى أن لقيت مصرعها سنة 1949 على إثر حادث تصادم.ترسم متشل في روايتها لوحة تاريخية خالدة لمجتمع الجنوب الأمريكي، وتأخذنا إلى قلب الحرب الأهلية الأمريكية، وما جلبته من مآس وتحولات، لكنها قصة حب أيضاً، تتعرف من خلالها إلى مجموعة من الشخصيات القوية الرافضة للاستسلام، رغم الضربات والمفاجآت التي تخبئها الحياة للإنسان.
مشاركة :