وجهة نظر.. وحرية عقلية

  • 4/1/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

إذا اعتبر الإنسان تاريخ الآراء وتأمّل في ضروب الحياة، ثم هَمس في ذاته، من ذا الذي يستطيع إحصاء ما تفقده الدنيا من ثمرات العقول، والأذهان الناضجة التي لا تزال تجد من خُوْر العزيمة ما يُعتبر في نظر الجمهور مُخلاً للدين ومخالفاً للآداب؟ قد نرى أحياناً بين هذه الطائفة بعض أهل البصائر الثاقبة الدقيقة، والفطن الذكية وهم يحاولون إقناع ضمائرهم الأبية ألا ينفكوا من استنفاد مهاراتهم، رجاء التوفيق بين ما يتمنونه وبين إرضاء آراء الجمهور ولعلهم بعد كل ذلك يوفقون إلى غرضهم. الحقيقة أن الإنسان لا يستطيع أن يصير مفكراً عظيماً إلا إذا أيقن بأن أول واجبات المفكر اتباع (رائد عقله) إلى أي غاية يسعى ويريد، والإيمان بحق الاستفادة من الخطأ أكثر مما يستفيد من صواب الذين لا يعتقدون الصواب، إلا من باب التقليد دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث والتروي. ولا أقصد أن يكون الغرض الوحيد أو الأهم من إطلاق الحرية الفكرية تكوين فحول المفكرين وأعاظم الفلاسفة، وإنما الغاية الكبرى تمكين أهل الطبقة الوسطى "إن وُجدت". من استيفاء النمو العقلي الذي يطيقون بُلوغه بحسب فطرتهم، فقد ظهر في العصور الماضية وربما يظهر في العصور الآتية لا أستبعد ذلك، كثير من كبار المفكرين بين أمم غلب عليها "الاستعباد العقلي" وفي بيئات تَمكن منها "الجمود الذهني"، ولكنه لم يظهر في مثل هذه البيئات شعب حر الفكر وإذا كان بعض الشعوب قد اقترب مؤقتاً من هذه المنزلة العالية، ذاك لأنه أُعتق لأجل مسمى ربما برهة زمنية محسوبة للبحث في مُستحدث الآراء. فأينما كان البحث في كُبريات المسائل التي تهم الإنسانية مغلق الأبواب، فلا رجاء أن تجد ذاك النشاط العقلي والتوقد الذهني وما دام الناس يتحاملون الخوض في المباحث التي لها من الخطورة جانب ومن الجلال جانب آخر، فلن تهب الخواطر من رقدتها ولن تثور العقول من قرارها، ولن ينبعث في القلوب ذلك الدافع الذي يرفع الفرد إلى ما يقارب منزلة المُفكر العظيم. قد شهدت أوروبا هذه الثورات الفكرية ثلاث مرات في العصور الحديثة: (الأولى) في عصر ما بعد الإصلاح الديني، و(الثانية) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وكانت محصورة في الطبقة المتنورة، و(الثالثة) إبان الثورة الفكرية التي حدثت بألمانيا ولكنها لم تلبث إلا قليلاً. كانت هذه الثورات الثلاث مختلفة من حيث الآراء والمذاهب التي أنتجتها، بينها شبه تشابه في أن العقول التي أدارتها خلعت ثوب الخضوع للسلطة وكسرت أغلال التقليد والمتابعة، وخرجت من عضوية نادي الاستبداد العقلي، وارتدت ثياب الحرية المطلقة المسؤولة في آن معاً. فالدوافع التي انبعثت في القلوب أثناء هذه الثورات هي التي كونت أوروبا الحاضرة ورفعتها إلى منزلة الاقتداء بمفكريها، فما من وجه من وجوه الإصلاح المُستحدث في الأنظمة السياسية أو في المجهودات العقلية إلا ويسهل تتبعه إلى إحدى هذه الثورات الثلاث أو تأسيس مبادئ قاعدتها "الحرية العقلية". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :