المنصات المؤيدة للأوضاع الحالية في مصر تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الشباب المصريين يعيشون عصراً ذهبياً لجهة اعتراف النظام بدورهم وإدماج الدولة كوادرهم واعتراف المسؤولين بدواعي إحباطاتهم وعدم إنكار اكتئابهم، ولجهة وسطية تدينهم وتقبلهم الآخر وتفهمهم وضع دينهم وأهمية دنياهم. والساحات المعترضة ترى أن الشباب يعيشون عصراً بائساً لجهة عودة سيئة إلى عهد ما قبل الثورة، وردة عميقة لتجاوز أفكارهم وطموحاتهم، وتحركات رديئة تدفع قطاعاً منهم إلى حافة الإلحاد يأساً من العدالة وقنوطاً من رحمة السماء، وقطاعاً آخر في أحضان الجماعات المتطرفة والمجموعات المتشددة. أما الجبهات الإخوانية فتروج لأفكار قوامها أن الأوضاع السياسية الراهنة ترسخ معتقدات علمانية مدمرة وتطلق دراسات عنكبوتية متفجرة تشير إلى ارتفاع معدلات الإلحاد بين الشباب منذ «الانقلاب»، وتنامي ظاهرة بعدهم عن الدين بسبب الممارسات السياسية السيئة منذ خلع نظام الإخوان وإقصاء «أول رئيس مدني منتخب أتت به الصناديق» عضو جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي. «أكد محامون اختصاصيون في قضايا الأحوال الشخصية أن قضايا الطلاق والخلع بين المتزوجين من الشباب زادت بنسبة كبيرة في العام الماضي وذلك بسبب إلحاد الزوج!» مضمون الخبر المنشور في ما لا يقل عن عشرة مواقع خبرية إخوانية يعيد «تهمة» الإلحاد بين الشباب إلى انقلاب الإرادة الشعبية المصرية على حكم الجماعة. «جماعة الشر» التي يأتي ذكرها دائماً وأبداً في ملتقيات رسمية أدت إلى «لخبطة» دينية لدى الشباب الذين اعتقدوا بأنها جماعة طيبة تهدف إلى نشر التدين والقيام بالأعمال الخيرية ومساعدة الفئات الأكثر احتياجاً ابتغاء مرضاة الله، فإذ بها وحش بأنياب وغول بأذناب ففقدوا الثقة وصدمهم الواقع فضربهم البعد من الدين، لكن ها هي الدولة تعود إلى دورها وتعد الأئمة وتجهز الدعاة القادرين على إعادة صوغ ورفع مستوى الفهم الديني الصحيح المستنير، ما يكفل الوصول بالمنهج الإسلامي الوسطي السمح إلى كل الشباب. أما الشباب أنفسهم موضوع النقاش ومجال الخلاف، فلا يجدون أنفسهم منجذبين إلى هذا التوجيه، أو مقتنعين بذلك التفسير، أو منتمين إلى هذه الإجراءات، وذلك باستثناء ثلاث فئات لا تمثل الغالبية وهي: الضالعون والضالعات في نشاطات رسمية تنظمها الدولة، أو المنتمون والمنتميات إلى الجماعات الدينية أو المتعاطفون معها، والمعارضون والمعارضات لهؤلاء وأولئك. وتظل القاعدة العريضة من الشباب المصري تمضي قدماً في تدينها أو لا تدينها تبعاً لتربيتها وتنشئتها، أو اجتهاداتها وأفكارها، أو عنداً ونكاية. «سؤال أحدهم عن تديّني أو توجيه نصحية أو أمر من شخص ما في شؤون حياتي الدينية أشبه بمن يدخل الحمام معي. ليس من حق أحد التدخل في ما أؤمن به أو لا أؤمن به ولماذا وكيف أعبر عن إيماني هذا، طالما لا أضر أحداً. لكن الثقافة الشرقية تعشق الحشرية، وهو العشق الذي تحول قانوناً جبرياً في سنوات التحزبات والتحيزات الدينية ذات الطابع السياسي أو السياسية ذات الطابع الديني». هكذا يقول عمرو السيد (27 سنة) الذي يضيف أن الكيل طفح به نتيجة إصرار النظام السياسي وخصومه على احتكار تدين الشباب باعتباره مسؤولية كل منهم. تدين الشباب بات في العقد الأخير، وفي شكل أوضح منذ هبوب رياح الربيع، خليطاً من الاستقطاب السياسي والتهديد المجتمعي والوعيد الأمني والترغيب من قبل الجماعات. التصريحات الصادرة عن مؤسسة الأزهر الشريف عن الشباب والتدين والإلحاد طيلة الأشهر الماضية تصب في خانة واحدة لا ثاني لها: «الإلحاد والفكر المادي سبب مآسي البشرية». والمؤتمرات والفاعليات الرسمية الموجهة للشباب تدور في فلك «تحديث الخطاب» الموجود سلفاً. ولكنه فلك مغلق لا مجال للخروج الفعلي من جموده أو ابتداع مسارات مغايرة للتغلب على قيوده. والجماعات الدينية الموجودة، سواء بقايا الإخوان أو غيرها مما تعتنق فكر الإسلام السياسي تعتبر نفسها حامي حمى الدين والوحيدة الأصلح للحكم سواء كان ذلك بترغيب الشــباب بأفكارها السياسية أم بترهيبهم بمغبة الخروج عن طاعة الله واتباع مسارات الشيطان. وعلى هامش كل هـؤلاء، تقفز مؤسسات الدولة بين الحين والآخر وعلى مر العصور والعهود باعتبارها حامي حمى الأخلاق (الدين). «الأخلاق قواعد يصعب قياسها أو وضع معايير معينة لمعاقبة من يخرج عنها أو إثابة من يحافظ عليها. يفترض أن البيت والمدرسة والإعلام تغرس مبادئ معينة في نفوس المواطنين تتعلق بالضمير والعمل واحترام الواجبات وضمان الحقوق وعدم التسبب في ضرر الغير، ولكن كيف نعاقب مواطناً على فعل ما ليس جنائياً ولكن لأننا كدولة أو كمجتمع نعتبره فعلاً غير أخلاقي؟!» وتدلل لارا كمال الدين (22 سنة) على ما تقول بواقعة حدثت قبل أيام في حفل تخرج مدرسة ثانوية حوى فقرة راقصة وصفها البعض بالمجون والفسوق والعري وناقوس الخطر الذي يهدد المجتمع، وهو ما أكده صفوت مصطفى (20 سنة) غاضباً: «مثل هذه الحفلة تناقض تماماً طبيعة المجتمع المصري المحافظ المتدين. أين دور الدولة من هذا الانحلال؟!» مصطفى – الذي لم يحضر الحفلة لكن سمع عنها من الفايسبوك- يرى أن حماية البلاد من هذا «الفسوق» من المهمات الأساسية لـ «الدول المحترمة». وبسؤاله عن دور الاحترام في ظاهرة متفشية مثل التحرش، قال: «لا يمكن المقارنة بين هذا وذاك، فالتحرش يحدث لأن الفتاة تستفز الشاب وتدفعه لذلك بملابس غير لائقة ترتديها، أو مشية غير محترمة، أو تواجدها في مكان مظلم وحدها». وعلى رغم أن الرضيعة التي لم تكمل العامين واغتصبها أحد الجيران قبل أيام لم تتواجد في مكان مظلم وحدها، ولم تكن ترتدي «حفاضة» مثيرة ولم تمش مشية غير محترمة، إلا أن مصطفى يعاود المطالبة بالفصل بين هذه الأحداث، مؤكداً بين كل جملة وأخرى أن «مجتمعنا محافظ ومتدين». وبين التدين والدين والتديين خطوط فاصلة رقيقة بعضها متشابك والبعض الآخر مفصول، لكن الخطاب الديني في مصر على مدى العقود الأربعة الماضية وضعها جميعاً في سلة واحدة. قواعد هذه السلة التي باتت مسيطرة على كثيرين تشير إلى أن «طلبة جامعة الأزهر متدينون» (لأن الطالبات إما منقبات أو محجبات) لكن «طلبة الجامعة الأميركية أكثرهم علمانيون» (لأن نسبة الحجاب بين الطالبات ليست مرتفعة)، وأن «الدولة عليها حماية الأخلاق» (منع الحفلات الراقصة) لكن التحرش أمر مختلف، وأن «الدولة علمانية» لأن «الرئيس بتاع ربنا تم خلعه» أو إنها وسطية «لأن الرئيس يدعو إلى تجديد الخطاب الديني» وهلم جرا. ويبقى الشباب مراقباً لهؤلاء ومتابعاً لأولئك، واقعاً تحت تأثير جماعات هنا أو مضطراً للانصياع إلى مظاهر شكلية هناك بحكم التربية، أو معتمداً على اجتهادات شخصية وتحليلات مستقلة تؤدي إلى نتائج غير متوقعة للجميع.
مشاركة :