تزخر السعودية بعدد كبير من الدروب التاريخية، إلا أنّ درب زبيدة يعد الدرب التاريخي الأشهر في الجزيرة العربية؛ نظراً لأهميته التاريخية، ولكثرة ما يحويه من معالم أثرية لا يزال الكثير منها باقياً إلى الآن، وهو ما أهّله لأن يُرفع للتسجيل في قائمة التراث العالمي باليونيسكو، ضمن 10 مواقع طلبت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني تسجيلها في القائمة، ومن المتوقع أن يحدث الأمر قريباً. يمتد درب زبيدة «طريق الحج الكوفي»، من الكوفة وحتى مكة المكرمة. يبلغ طوله في أراضي المملكة أكثر من 1400 كم، حيث يمر بخمس مناطق في السعودية، هي مناطق الحدود الشمالية وحائل والقصيم والمدينة المنورة ومكة المكرمة. أُدرج الدرب ضمن مشاريع برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري للمملكة الذي تنفذه الهيئة ضمن مبادراتها في برنامج التحول الوطني. * تسميته تعود تسميته نسبة للسيدة زبيدة بنت جعفر زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد، وذلك نظير الأعمال الخيرية التي قامت بها، إضافة إلى المحطات الكثيرة التي أمرت بإنشائها على امتداد الطريق. كان درب زبيدة من الطرق التجارية قبل الإسلام، وازدادت أهميته مع بزوغ فجر الإسلام، ثمّ شهد المزيد من الاهتمام وازدهر خلال عصور الخلافة الإسلامية المبكرة. إبان الخلافة العباسية (750 - 1258م)، بلغ الدرب ذروة ازدهاره، عندما حُدّدت الطريق ورُصفت وأُنشئت محطات الطريق وحفرت الآبار والبرك وبنيت السدود والمنازل والدور، وحُصرت 27 محطة رئيسية أهمها: الشيحيات والجميمة وفيد والربذة وذات عرق وخرابة. وللطريق قيمة عالمية استثنائية، لأنّها تجسّد فعلياً الأهمية الثقافية للتبادلات متعددة الأبعاد وللحوار بين البلدان، وذلك من خلال جمعها للكثير من الحجاج المسلمين من مختلف البقاع والأعراق والأجناس؛ كما يُبرز درب زبيدة تفاعل الحركة طوال الطريق، من حيث المكان والزمان منذ عصور ما قبل الإسلام وحتى نهاية الخلافة العباسية في القرن 13 للميلاد. كتب الكثير من المؤرخين والجغرافيين والرحالة عن الدرب. وأهم من كتب عنه: ابن خرداذبة، وابن رسته، واليعقوبي، والمقدسي، والحمداني، والحربي، وابن جبير، وابن بطوطة. كما استقطب الدرب عدداً من الرحالة الغربيين ممن تمكنوا من سلوكه والكتابة عنه في القرنين الـ19 والـ20 الميلاديين. * هدف درب زبيدة تشير المصادر التاريخية إلى أنّ هدف الدرب هو خدمة حجاج بيت الله الحرام من بغداد (عاصمة الخلافة العباسية) إلى مكة المكرمة، وإثراء الثقافات والتبادل التجاري في ذلك الوقت، بمسافة تتجاوز 1400 كلم تقريباً، حيث وُضعت علامات على طول الطريق لإرشاد الحجاج ووُضعت برك لجمع الماء بطريقة ذكية جداً، في أماكن مختارة بعناية فائقة وبمسافات مدروسة، ليستفيد منها الحجاج للتزود بالماء. ذكر اسم الدرب في كتب الجغرافيين والرحالة القدامى من المسلمين وغيرهم، كما ذكره الرحالة الفنلندي جورج فالين وذكرته الليدي آن بلنت في كتابها (رحلة إلى بلاد نجد)، ومع مرور الزمن اندثرت بعض معالم الدرب في حين ظهرت أطلالها في أماكن أخرى. وعن درب زبيدة التاريخي، يقول البروفسور سعد الراشد عالم الآثار السعودي: «في ضوء المعلومات الواردة في المصادر التاريخية والجغرافية، نجد أنّ طريق الحج من العراق (درب زبيدة)، خطط مسارها بطريقة علمية وهندسية متقنة، حيث حُددت اتجاهاتها، وبُنيت على امتدادها المحطات والمنازل والاستراحات، ورصفت أرضية الطريق بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، ونُظّفت الطريق من الجلاميد الصخرية والعوائق في المناطق الوعرة والمرتفعات الجبلية، كما زودت بأسلوب هندسي ونظام دقيق لتوزيع المنشآت المائية من سدود وآبار وبرك وعيون وقنوات، ووضعت على مسارها بطريق حسابية موزونة الأعلام والمنارات والأميال (أحجار المسافة)، والضوى والمشاعل والمواقد ليهتدي بها المسافرون ليلاً نهاراً. ورصد الجغرافيون والرحالة المسلمون محطات الطريق ومنازله بين الكوفة ومكة، فبلغت 27 محطة رئيسية، و27 منزلاً (أي محطة ثانوية)، وهي محطة استراحة تُنصب على مسافة محددة بين كل محطتين رئيسيتين، هذا عدا المنازل والمرافق الأخرى المنتشرة على امتداد الطريق. كما رصد الجغرافيون كذلك المحطات والمنازل على الطرق المتفرعة من الطريق الرئيسي لدرب زبيدة. ويلتقي أحد فروع طريق البصرة مع طريق الكوفة في معدن النقرة، ويتفرع الطريق من ذلك المكان إلى مكة جنوباً أو إلى المدينة غرباً. كما يلتقي طريق الحج البصري الرئيسي مع درب زبيدة بالقرب من مكة المكرمة، عند ميقات ذات عرق. وتجمع المصادر التاريخية والجغرافية المبكرة، أن طريق الكوفة - مكة (درب زبيدة)، بلغت أوج ازدهارها في العصر العباسي المبكر، وشعر المسافرون على الطريق والقادمون من أقصى المشرق الإسلامي بالأمن والطمأنينة. ولهذا يقول المؤرخ ابن كثير: «كانت طريق الحجاز من العراق، من أرفق الطرقات وأكثرها أمناً وأطيبها». ولكن الطريق وغيرها من الطرق الرئيسية والفرعية، تعرضت في فترات متعاقبة لهجمات القبائل، فلم يكن باستطاعة الحجاج والمسافرين اجتياز الطريق الرئيسية أو أي من فروعها إلا بتوفر رعاية عسكرية وحماية من عاصمة الخلافة. وقد تعطلت الطريق بشكل كبير بعد سقوط بغداد على يد المغول في عام 1258، ولم تعد الطريق تستخدم إلا في فترات متقطعة. ثمّ بدأت معظم محطات الطريق بالاندثار تدريجياً، وتحوّلت المحطات والمنازل إلى أطلال دارسة، فيما بقيت بعض الآبار والبرك صالحة للاستعمال، بيد أنّ الغالبية العظمى منها غطتها الرمال مع مرور الزمن. * درب زبيدة على الصعيد الأثري وعلى الصعيد الأثري، فقد أجرى الدكتور سعد الراشد دراسة موسعة وشاملة لطريق الكوفة - مكة «درب زبيدة»، وشملت الدراسة المواقع الأثرية على الطريق والمنشآت المائية وآثار الرصف والتمهيد ومواقع أعلام الطريق. وعن نتائج هذه الدراسة قال الدكتور الراشد: «عُثر على عدد من أحجار المسافة (الأميال المكتوبة)، التي تحدد المسافات بقياس وحدات (البريد) و(الميل) و(الفرسخ). وعثر على شواهد أثرية توضح إصلاحات الخليفة المهدي العباسي وأعمال الصيانة والتجديد التي جرت في عهد الخليفة المقتدر بالله. وتشكل الأعلام التي لا تزال آثارها باقية، دلالة واضحة على تحديد مسار الطريق وفروعها». ويضيف: «بنيت الأعلام بالحجارة على شكل أبراج دائرية في معظمها. ترتفع على سطح الأرض نحو ثلاثة أمتار، والمسافة بين العلم والآخر محددة بنحو الميل (2 كم تقريباً)، وفي بعض الأماكن تقترب الأعلام بعضها من بعض، نحو نصف الميل (1 كم تقريباً)، كما أنّ الأعلام تزداد بالقرب من المحطات الرئيسية التي تتجمع فيها الطرق أو تتفرع إلى جهات أخرى، أو بالقرب من مواضع الآبار والبرك. ويمكن مشاهدة عشرات الأعلام على امتداد الطريق وقد تساقط البعض منها على أشكال أكوام حجرية. وكشفت الدراسات وأعمال المسوحات والحفريات الأثرية، عن أنماط من القصور والتحصينات والمنازل والمساكن والمساجد في عدد من المواقع الأثرية التي كانت محطات رئيسية على الطريق. وكانت هذه المواقع عبارة عن مدن وقرى تخدم سكان تلك المناطق وقوافل الحجاج والتجارة والمسافرين، حيث توفّر لهم ما يحتاجونه من مأكل ومشرب وملبس وأعلاف للدواب، وكثير منها كانت تشكل أسواقاً عامرة بالمنتجات الزراعية والحيوانية والصناعات المتنوعة. * أشهر المواقع ومن أشهر المواقع الأثرية التي كانت تمثل مدناً ومحطات رئيسية كبيرة: زبالة والثعلبية وفيد وسميراء والنقرة والربذة ومعدن بني سليم. وأثمرت الكشوفات الأثرية في مدينة فيد التاريخية عن شبكة متطورة من الآبار والعيون والقنوات والبرك. وفيها مظاهر معمارية متنوعة تتركز في تشييد القصور المحصنة والمنازل والدور والمساجد والطرقات لمدينة عربية كبيرة الحجم. وكُشف عن أنماط متنوعة من المعثورات واللقى الأثرية للأواني الفخارية والخزفية والزجاجية، والأدوات المعدنية والحجرية والمسكوكات، وتتوافق المكتشفات مع المعلومات التي أوردتها المصادر التاريخية والجغرافية وكتابات الرحالة المسلمين، عن هذه المدينة التي كانت من أقدم المدن الإسلامية في قلب الجزيرة العربية، وكانت تشكل أيضاً محطة رئيسية في منتصف طريق «درب زبيدة» بين الكوفة ومكة المكرمة. أجريت في موقع «الربذة» الأثري، حفريات أثرية شاملة استمرت لأكثر من 20 سنة، كشفت التنقيبات الأثرية في الموقع عن المسجد الجامع ومسجد المدينة السكنية، ووحدات بنائية للمنازل الكبيرة والقصور، وأسواق ومواقع للتصنيع ومخازن وأحواض وخزانات المياه الأرضية. وتشكل المكتشفات الأثرية في الربذة من القطع والأواني الخزفية والفخارية والزجاجية والمعدنية والحلي وأدوات الزينة والمسكوكات والنقوش، مصدراً مهماً للدارسين والباحثين؛ لكون الربذة واحدة من المدن المبكرة في الإسلام، وكانت بالإضافة لكونها مدينة ومحطة رئيسية في النقطة التي تحدّد ثلث الطريق من الكوفة، حمى لإبل الصدقة وخيل المسلمين. واستمرت الحياة في الربذة من بداية عصر صدر الإسلام وحتى سنة 319هـ - 917م، حيث لم تعد الحياة صالحة فيها، فرحل عنها أهلها. * نمط للعمارة الإسلامية أوضحت الدراسات الأثرية أن المنشآت المعمارية على طريق حج الكوفة - مكة، تمثل نمطاً معمارياً فريداً للعمارة الإسلامية المبكرة في جزيرة العرب. ويتمثل ذلك في أسلوب التخطيط المعماري والوظائف المختلفة. كما تميزت المباني بسماكة الجدران وأبراج الحماية. وزودت الوحدات البنائية للمنازل والدور السكنية، كما هو الحال في الربذة، بخزّانات لحفظ مياه الشرب تحت مستوى أرضيات الغرف والساحات والممرات. كما أنّ الكثير من المحطات كانت تشتمل على الأسواق والحمامات العامة وغير ذلك من المرافق الأخرى. أما بالنسبة لبرك المياه فقد أوضحت الدراسات التوثيقية أن البرك والأحواض حُفرت وبُنيت على امتداد الطريق على مسافات متفاوتة ومحدّدة، بعضها بالقرب من المحطات والمنازل، وبعضها الآخر في أماكن نائية عنها. ولا تزال معظم تلك البرك واضحة للعيان بمعالمها وتفاصيلها المعمارية الدقيقة، بينما طمرت الرمال جزء منها. وتتنوع مساحات البرك وأشكالها، فبعضها صّمم بشكل دائري، وبنيت أخرى بشكل رباعي ومستطيل التخطيط. وزودت البرك بأحواض ترسيب (مصافٍ)، ودُعمت جدرانها من الداخل بأكتاف نصف دائرية أو نصف مربعة، للحفاظ عليها من ضغط مياه السيول التي تصب بداخلها، كما أن بعض البرك صممت بحيث تكون جدرانها الداخلية مدرجة بكاملها، وزودت بقنوات وسدود تجلب إليها مياه الأمطار والسيول من الأودية المجاورة لها. * براعة المسلمين الأوائل بناء هذه البرك يدل على براعة المسلمين الأوائل في العمارة والخبرة الجيدة في إقامة الإنشاءات المائية. وبالنسبة لتخطيط مسار طريق «درب زبيدة» وتفرعاتها، فقد تمكن المهندسون من تحديد مساراتها بشكل مستقيم في معظم أجزائها، وتجتاز أراضي سهلية مستوية، ومناطق وعرة وخشنة، وصحاري كثيفة مقفرة حتى تصل إلى جبال الحجاز ذات التضاريس الصعبة التي تخترقها الأودية الضيقة والعميقة. وسُهّلت الطريق بقطع الممرات بين الثنايا والجبال، وحُمي مسار الطريق بجدران مرتفعة على جانبيه، ووضعت مدرجات عريضة في مواضع الصعود والنزول في المناطق الجبلية الوعرة. وبرع المهندسون في رسم الطريق بتفادي مساقط السيول الجارفة. وتدل آثار التمهيد والرصف على خبرة المهندسين المسلمين في تحديد الطرق ورسمها بأساليب هندسية دقيقة. من جهته أوضح الدكتور حسين أبو الحسن، المستشار بقطاع والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني أن الهيئة أجرت مسحاً كاملاً لدرب زبيدة الأثري، ورممت بعض معالم الطريق، وأهّلت ضمن مشروع «طرق التجارة والحج القديمة بالمملكة». وأضاف أن «درب زبيدة من المواقع التي حظيت باهتمام الهيئة منذ مدة طويلة، بدءاً بإجراء مسح كامل على معالم الطريق ووضع خرائط لها وإجراء عدد من الدراسات العلمية، كما أنّ الهيئة ممثلة في قطاع الآثار رممت بعض معالمها، ونُفّذت أعمال بحثية علمية في بعض المواقع الرئيسية على درب زبيدة، ومنها أعمال التنقيب الأثري والترميم والتهيئة لموقع فيد الأثري في منطقة حائل الذي يعد محطة رئيسية على امتداد طريق درب زبيدة، حيث نسّقت الهيئة مع إمارة المنطقة والهيئة العليا لتطوير منطقة حائر، بإجراء تنقيبات أثرية وترميم للمعالم الأثرية المكتشفة، وتنظيف البرك وترميمها، وإيجاد ممرات للسيّاح داخل الموقع ووضع لوحات تعريفية، ويجري العمل على إنشاء متحف خاص بالموقع، وكل هذه الأعمال لا تزال تجري وفقاً لاتفاقية موقعة بين هيئة السياحة وهيئة تطوير حائل.
مشاركة :