كانت العولمة سائرة بثقة نحو القرية العالمية الواحدة مُحطِّمة الحواجز الوطنية وخصوصيات الشعوب المحلية برأسماليتها المغرية التي لا تُقاوم، بينما المعارضون لها ظهروا كأنهم نائحون في عزاء لا يملكون سوى الخطابة؛ لكن بدت الأمور تتكشّف بشكل مخالف لكل التوقعات.. من كان يتخيل أن الصين الشيوعية تدافع عن حرية التجارة الدولية بينما أمريكا زعيمة العالم الرأسمالي الحر تطالب بقيود تجارية مع الدول.. أو أن دول الاتحاد الأوربي المتمددة صارت منكمشة أمام تيارات شعبوية تطالب بحماية اقتصادياتها الوطنية وبالخروج من الاتحاد وإغلاق حدودها في وجه المهاجرين والمبالغة لدرجة الفوبيا بتشديد قوانينها الأمنية ضد الإرهاب.. الآن، يواجه النظام العالمي الواحد مأزقاً حاداً، وأكبر تحدياته: تبعات الإرهاب من جهة والشعبوية من جهة أخرى. من ناحية الإرهاب، اعتدنا ربطه بالحركات المتصلة بالفكر الديني المتشدد، نظراً لوضوح العلاقة الظاهرية المباشرة. هذا التفسير، رغم واقعيته، لا يبدو كافياً، إذ كيف نفسر أن نسبة كبيرة من الداعشيين بالعراق وسوريا أتوا من بلدان لم تزدهر فيها الخطابات الدينية المتشددة مثل طاجيكستان، وتونس والجزائر، بل ومن غرب أوربا؟! هل هناك أسباب أخرى؟ نعم، يقول أغلب المفكرين (مثل: هابرماس، دريدا، بودريار، إدوارد سعيد، محمد أركون، إدغار موران، تشومسكي)، الذين يرجعون أسباب الإرهاب لبيئة العولمة الرأسمالية أو للسلوك الغربي، مع أسباب أخرى كمستوى المعيشة وحالة الفوضى في بعض مناطق الشرق الأوسط. يتفق هؤلاء المفكرون بدرجات متفاوتة على أن إيديولوجية الإرهاب العالمي تتمثّل في رفض عنيف للعولمة التي غيّرت طبيعة المشاركة الاقتصادية والسياسية للمجتمعات، حين فتحت طرقاً جديدة للمشاركة تُرسخ هيمنة الرابحين (الأغنياء، الأقوياء) على البقية الذين ظهر منهم فئات تقاوم العولمة بأقصى درجات العنف.. أو مقاومتها سلمياً بالتيارات الشعبوية التي تدعو للتقوقع داخل الحدود الوطنية والعودة للحس القومي المتعصب.. هناك استنتاج يبدو غريباً يطرحه بعض المفكرين، فبودريار يرى أن الأصولية الجهادية، ليست عملاً دينياً، بل دنيوي كأحد أشكال العولمة المضادة؛ كيف؟ يقول: العولمة هي نفي عنيف للاختلاف وللخصوصيات المحلية.. نفي للغريب وللبعيد وللخصم.. نفي للآخر.. هنا تظهر مقاومات لا عقلانية لها متخذة أشكالاً عنيفة وشاذة. الفيلسوف هابرماس له طرح مشابه بأن الأصولية الجهادية ليست عودة للدين الأصيل، بل تغيّر في طريقة التفكير التي تشكلت عبر ردود فعل عنيفة ضد طريقة فهم الحداثة للدين وسرعة تغييرها للتقاليد.. فصدمة الحداثة سببت ردَّ فعل دفاعي عنيف خوفاً من الاقتلاع الحاد لطرق الحياة التقليدية.. البروفيسور الأمريكي روبرت بيب المختص بشؤون الأمن الدولي أصدر عام 2005 كتاباً حلل فيه جميع التفجيرات الانتحارية المعروفة بالعالم من عام 1980 حتى 2003م وعددها 315 هجمة. وجد بيب علاقة ضعيفة بين الدين والهجمات الإرهابية، بينما ظهر له السبب الأغلب لهذه الهجمات هو رد على الاحتلال من الدول الديمقراطية. وتوصل بحث بيب إلى أن كل العمليات الإرهابية و95 % من الهجمات الانتحارية كان التحرّر الوطني في صميم عاطفتها.. وخلص إلى أن الهجمات الانتحارية هي تكتيك دنيوي أكثر منه ديني. إذا كان الأمر كذلك، فما هو الحلّ؟ يؤكد هابرماس على ضرورة النقد الذاتي الجدي داخل الثقافة الغربية؛ لأنه إذا كانت الرسالة المعيارية للغرب الديمقراطي الليبرالي هي النزعة الاستهلاكية فقط، فستجد الأصولية بيئة مناسبة لنموها، وسيتفاقم العنف. علاج ذلك بتغيير طريقة التفكير والتحرر من الخوف والاضطهاد عبر تحسين ظروف المعيشة والثقافة السياسية، وبناء الثقة في الممارسات اليومية التخاطبية ليصبح بالإمكان عمل تنوير في الإعلام والمؤسسات والمدارس والمنازل، حيث يتعارف الأفراد على بعضهم الآخر ويتفاعلون إيجابياً. أما بودريار فيرى أن الحل بالحد من ظاهرة العولمة والسماح بوجود المخالف والمغاير حضارياً ودينياً ولغوياً.. ينبغي احترام الثقافات والحضارات المختلفة بتنوّعها واختلافها.. أما من ناحية انتشار الشعبوية فقد خلصت دراسات البروفيسورة الأمريكية شيري بيرمن (جامعة كولومبيا) بأن الخطر ليس من الشعبويين، لأنهم لا يخلقون الأزمات بل يستغلون فشل الديمقراطيات الغربية في حل مشاكلها وعدم تلبيتها لاحتياجات المواطنين (انخفاض الأجور، تدهور مستوى المعيشة، تدفق الأموال للنخبة، الجمود السياسي..). بيرمن تستنتج أن الشعوبية هي أحد أعراض فشل الديمقراطية الليبرالية، فعلى أنظمة الحكم الكلاسيكية أن تبذل جهداً حقيقياً لمعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وإلا فإن الغرب قد يجد نفسه منتقلاً من الشعبوية للفاشية.. الخلاصة أن خطاب المتشددين الدينيين أو القوميين ليس هو المحرك ضد العولمة، بل هو استجابة انتهازية لطلب شعبي ضد العولمة التي أنشأت أزمات حادة. الآن، هناك إعادة نظر عالمية للعولمة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. فعلي المستوى الاقتصادي نجد مثلاً فرض إجراءات حمائية ضد الشركات الأجنبية ودعم الشركات الوطنية بما يخالف أنظمة التجارة الدولية الحرة مما سيعيد هيكلة رأسمالية العولمة.. وعلى المستوى السياسي نلاحظ بداية تفكك بعض الاتحادات الدولية وترهل بعضها، أو بالميول الشعبوية والعودة للحدود الوطنية المضادة للعولمة.. يترافق مع ذلك مزيد من الإجراءات الأمنية المتشددة على التنقّل بين الدول.. فما الذي سيبقى من العولمة.. نظام عالمي جديد أم أنظمة دولية متفرِّقة؟
مشاركة :