وقع حادث سيارة أودى بحياة سائقها، انطلق أحد الصحفيين للموقع ووجد بقايا سيجارة مروانة في المقعد الخلفي، ومن غد كتب عنوان تقريره: «سيجارة مروانة تسبب حادثاً مميتاً!» بعدها بشهور وقع حادث سرقة لأحد البنوك وتبين أن فاعليها مهاجرون نيجيريون. فكتب نفس الصحفي من غد: العمالة المهاجرة تسرق البنوك، رغم أن الغالبية الساحقة من العمال المهاجرين منضبطون! الصحفي وقع ضحية ما اصطلح عليه بـ»التأثير الصامت»، ويقصد به الملمح البارز في أية حادثة يخطف أبصارنا ثم تفكيرنا أكثر كثيراً مما يستحق؛ وغالبيتنا نتعرض لهذا التأثير. عندما وقعت الحادثة الإرهابية على صحيفة شارلي إيبدو ضجت الصحافة الغربية حول المهاجرين المسلمين رغم أن من نفذها هم مواطنون فرنسيون، والغالبية الساحقة من مسلمي فرنسا مواطنون مخلصون؛ حتى في ذات الحادثة هناك مسلم وقع ضحية، وهناك بعدها مسلم آخر أنقذ حياة يهودي. التأثير الصامت امتد ليشمل مسلمي شمال إفريقيا وشرق المتوسط، وتمدد أكثر ليعيد أطروحة صموئيل هنتجتون: «صراع الحضارات». فهل ما يحصل من جدال عقب كل تفجير جهادي في الغرب، وآخرها شارلي إيبدو مؤشر قوي على صراع الحضارات أم هي ردود فعل أولية مؤقتة وسريعة الانطفاء، وسوء تفاهم ثقافي متبادل يشعله المتطرفون في كافة أصقاع العالم، وينفعل معهم مؤقتاً كثير من الناس؟.. هل هو صراع فعلي بين الحضارات أم أعراض جانبية للعولمة واندماج حضارات العالم؟. فرضية صراع الحضارات كثيراً ما تختبئ حتى تكاد تضمحل، فيعيدها تفجير إرهابي في إحدى الدول الغربية، رغم أن غالبية التفجيرات ينفذها أفراد ينتمون لذات الحضارة التي تتعرض للهجوم. هذه الفرضية تستند على وقائع نادرة لكنها حادة البروز.. إنها مقنعة نظرياً لكن الواقع يخالفها من وجوه عدة. فما هي القوة المنطقية لهذه الفرضية حسب طرح صاحبها؟. نهاية حقبة الاستعمار كانت تعني بداية نهاية السيطرة الغربية على العالم، وتغير ميزان القوى ومعه الحضارة التي يحملها ومنها بدأت البوادر الأولى لفكرة صراع الحضارات: حضارة الغرب تضعف، والحضارات الأخرى تقوى وتعيد تأكيد ثقافتها الخاصة. أما ما بعد الحرب الباردة فقد أصبح العالم متعدد الأقطاب والحضارات وهي: الصينية، اليابانية، الهندية، الإسلامية، الغربية، الأرثوذكسية، الإفريقية وأمريكا اللاتينية، وما يحكم العلاقة بين تلك الحضارات هو «الصدام» على أساس الثقافة والهوية. «فالحضارات الآسيوية تبسط قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، أما الإسلام فينفجر سكانياً مع ما ينتج من عدم استقرار بالنسبة إلى الدول الإسلامية وجيرانها.» حسبما يقول هنتجتون؛ باختصار الفرضية تقول: إنه بعد نهاية الحرب الباردة لم يعد الصراع إيديولوجيا ولا على المصالح الاقتصادية بل على الهويات الثقافية والدينية «صراع حضارات». أما الذي يجعل هذه الفرضية غير واقعية فعوامل عديدة جداً؛ أهمها العولمة الاقتصادية، ومعها الاندماج العالمي، الذي يبدأ من البنية التحتية المتمثلة في التطور التقني كثورة الاتصالات والإعلام التي قربت المسافات الثقافية، وثورة المواصلات التي قربت المسافات المكانية، حتى أصبح العالم كما قيل «قرية صغيرة».. تراداف مع ذلك تشابه الأنماط الإدارية وأساليب التخطيط والإنتاج.. كذلك الشئون البلدية والصحية والتعليمية تأخذ نفس المنحنى الذي ينزع نحو التقارب بين أمم العالم. هذه التشابهات بين مناطق العالم تنتقل إلى البناء الاجتماعي والسلوكي والذوقي لتقود إلى البناء العلوي وهو الفكر والسياسة. ثمة أرضية من المفاهيم المشتركة بين شعوب العالم: الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، الحرية، المساواة، العدالة الاجتماعية، تكافؤ الفرص، حق التعليم والعمل والرعاية الصحية.. المواطنة، الديمقراطية، الشفافية، النزاهة، التعددية.. مكافحة البطالة والفساد والفقر والقمع. من كل ذلك نأتي إلى الهياكل التي تساعد على توحيد العالم، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. ونلاحظ صعود قوى الكيانات متعددة القومية أو ما فوق القومية: المنظمات العالمية غير الحكومية، والشركات المتعددة الجنسيات ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والمنظمات الدينية ذات الامتداد العالمي، حتى وصلنا إلى مرحلة حوار الأديان والحضارات. ذلك ما دعا المؤرّخ رينيه ريمون للتساؤل: هل هناك ولادة محتملة لحضارة واحدة للعالم كله، تعمل على توحيد تدريجي للعالم؟.. بينما يتوقع المفكر المستقبلي ألفن توفلر أن عصر المعلومات وثورة الاتصالات واقتصاد المعرفة سيؤدي إلى ذوبان الدولة القومية ليحل محلها منظمات عالمية أو نظام أممي واحد. وإذا كان الإرهاب يفتح فرعاً ثانوياً للخلافات بين الثقافات العالمية، مما يسمح لدعاة صراع الحضارات بتقوية طرحهم، فإن التحالف الدولي ضد الإرهاب يقارب بين دول العالم أكثر مما يباعد بينها. كما أن الصراع الأساس هو داخل كل بلد ضد الإرهاب وليس بين حضارات البلدان. وما يدحض فرضية صراع الحضارات أنها لا تعيش إلا فترة قصيرة بعد حوادث جهادية ضد الغرب، معدلها عموماً لا يتجاوز حادثاً واحداً كل ثلاث أو أربع سنوات. أيّ أن الفرضية تظهر مع ردود فعل أولية ومؤقتة على الحوادث يكون الانفعال بها متهيجاً لدى المتشددين في كل البلدان مما يؤثر عاطفياً في الآخرين حتى لدى كثير من المعتدلين، وانجراف الإعلاميين والمثقفين معها؛ حتى وصل الأمر بالبعض أن تكون إما مع أو ضد بطريقة مختزلة وسطحية. فإذا أنت أدنت الهجوم على شارلي فستلام.. وإن أدنته ووضعت كلمة «لكن» ستلام، وإن لم تدنه فستلام أيضاً، لأن الانفعال يقود للاختزال «إما أبيض أو أسود».. فإما أن هذا الحادث لا علاقة له البتة بالتطرف الإسلامي لأن الذي فعله مواطنون فرنسيون، أو أنه السبب الرئيس. وإما أن ذلك نتيجة سياسية لتهميش المهاجرين في فرنسا (وغالبيتهم مسلمون) أو أنه لا علاقة له البتة بذلك. إما أن حرية فرنسا لجميع من فيها أو أن حريتها محض كذب. العوامل المسببة لحادثة شارلي عديدة ومتداخلة التأثير: نوعية الحرية وتهميش أبناء المهاجرين في فرنسا، قضايا الشرق الأوسط ومظالم بقايا الاستعمار، التطرف الإسلامي، انحياز الثقافة الغربية، وحشية العولمة الرأسمالية... إلخ. الدراسات البحثية والأعمال الموضوعية هي التي يمكنها فرز هذه العوامل وترتيب أولوياتها وأنماط تداخلها. قبل أسبوعين أعلن مصدر في وزارة الدفاع الفرنسية أن عشرة عسكريين فرنسيين سابقين انضموا إلى شبكات جهادية، فهل يمكن اتهام فرنسا أو وزارة دفاعها بدعم الجهاديين بشكل أو بآخر؟.
مشاركة :