لم يخطر ببال بشر، ذلك النوع من حس الهاجس المترامي الأطراف في دواخلنا، ونحن نغرد بأول كلمات ننطقها من شفاهنا "أب، أو أم، أو ابن أو جدة"، فنصدر صفير الطيور المهاجرة في سماء الزمن حينما نفقد واحدا منهم. حس لا يعرفه سوى أولئك الذين ذهب لهم حبيب إلى تغاير الأمكنة والأزمنة إلى حدود بعيدة، فيعرف معنى كلمة اشتياق! تغادر أحبتك تسير في الطرقات، فترى عوالم غريبة لم يعهدها ناظراك من ذي قبل، حينها تعرف معنى الشوق والفراق. وحينما تسير ببطاقتك الشخصية فلا تعرف نفسك، تنظر فيها فلا تعرفها تقذف بها في وجه الزمن الغادر، فلا يعرفها إلا الحاسوب الإلكتروني، لأنها لم تعد مدونة في مشاعرك التي تنكر الزمان والمكان! حينها تعرف معنى الفراق والاشتياق. حينما تتألق بإبداعك وابتكاراتك وتسبح في بحر من الأمنيات التي قد تتفرد بها عن سواك في هذه البلاد أو تلك، فلا ترى إلا الذكريات المحمومة التي تقض مضجعك، حينها تعرف معنى الشوق والاشتياق، حينها تسأل: كيف الرحيل إلى أمكنة وأزمنة الأحبة؟ فيزم حارس القطار شفتيه كفوهة قربة يابسة بلا إجابة، فهو لا يعرف حمى الشوق والفراق، فلا يعيرك أي اهتمام، لأنك تحمل نفس بطاقته الشخصية، ولا يعرف مدى صلاحيتها إلا الله عز وجل، حينها لا جواب إلا لكلمة الحمد تحتل كل "يفط" العوالم المحيطة، على الأرصفة وفي أوراق الشجر، وحتى على موائد الأطعمة! حينما تتجول بين البلاد فتوقفك المنافذ، ويُنثر كل شيء في محفظتك وقميصك وملابسك الداخلية والخارجية وعربتك وحتى خصلات شعرك، فلا تجد إلا صورة نجم أفل، حينها تعرف معنى الشوق والفراق. حينما يقف شرطي المرور على رأسك فجأة يسأل: عن هويتك وعملك، ومن أين أتيت؟ وإلى أي اتجاه تسير؟ وماذا عندك؟ حينها تجيب: عندي حبيب رحل. وحينما تقف على باب المتاحف والقصور ولأول وهلة بعد غياب طويل في دهاليز العالم الموحش، تدمع عيناك شوقا ولهفة، لأنك تعرف كم مضى من الأحبة. فماذا تعني إذاً حمى الاشتياق؟ وهل نفهم مصطلحها؟ وهل نستجوب آفاق عقولنا الرحبة والضيقة في ذات اللحظة عن: ما هو الشوق؟ وعن لهيب الرحيل؟ حينما تجلس على رصيف القطار تنتظر قدوم حبيب ستة أشهر في لهفة اللقاء، فيصل القطار وتدق ضربات قلبك، حينها يتقدم إليك حارس القطار قائلا: البقاء لله! حينها تنتابك لحظات الدهشة ثم اللوعة ثم التصبر ثم الحمدلله، إلا أنه تتبدد الطاقة وأنت تصف لقاءك مع التاريخ، تجلس على الأرض، وتتحسس الماء المتدفق على عتبات مآقيك، وتتحسس أوراق الشجر، وخشونة الحجر، وكل شيء يدب في أركان الأمكنة، وأول شيء تفعله هو الولوج إلى ردهات الذكريات، وتجلس على الأرض لبضع دقائق تبكي، لماذا؟ لا أحد يعرف! كلمة صادمة ومهولة لا يستحملها أمثالي ممن سبحوا في ثنيات حبات الرمال ونسمات هواء ساخن يتدفق إلى المخ والعقل والوجدان ولها دون سواها. كلمة صادمة لأنني تجولت في كثير من بلاد الله ورأيت كيف يُبنَى الشوق في نفوس البشر، وكيف تتجذر اللهفة في نفوس خلق الله، كل يوم تذوي شمعة من شموع وجداننا، وكأن الشفق على موعد دائم، ليطفئ نور الوجد في مآقينا، قمم وهامات تذهب وتدور أسماؤها في فلك عالمي، لا يجد صداه في واقع نهل منه وتيمم بترابه! فلا نجد إلا حسا نادرا يشبه رنة الريح في أذن النجوم، أو رفيف الليلكة في ليل ساكن، أو ارتعاش النار من خلف الخيام، أو احتباس الناظرَين بعد لطمة غشيمة، ثم تحليق طيور النورس فوق صفحة المياه الهادئة، تعاند رحلة دمعة في المقلتين، وكأنها ركض عطشان خلف السراب في يوم لهيب، وجريح الكهف في ليل بهيم، هل ترى بصيص الجمر في جوف الرماد، وصرخة الميلاد، وحضن الأم في ساعات اللقاء، رائحة الثرى بين طيات الندى، وسليل مياه النهر تلاعب الحصى، ولحظة الرحيل إلى المدى البعيد، وهي تعلم أنه قد لا يعود! ودموع مبتهل في بهيم الليل، واغتراب من غابوا عن الأوطان، ولحظة الظنون واكتشاف خيانة الحبيب، مرارة الوعد المؤجل للبراءة في غياهب السجون. جري النخيل طليقة بين السهوب. ونزع رصاصة من قلب جريح قبل أن يموت لحظة الزواج ولحظة الطلاق، وموت طفلة في حضن أمها بين الصخور، وانغماس قرص الشمس في حضن الأفق، ووأد طفلة بريئة بين الثرى خوفا من الورى، ولحظة اختفاء مركب في الأفق البعيد يحمل الحبيب وهي لن تعود. وارتعاشة اللقاء، وانغماس النار في جرح دفين، وابتسامة الوليد. وصوت قضبان القطار ترنو إلى البعيد، وسط غابات مليئة بالوحوش والسكون والظلام وهسهسات الموج في جوف القواقع، وانبثاق الشرنقة لتفتق الحرير ثم تجمع الفراشات الملونة لتمتص الرحيق، وانحدار شلال من المياه وسط بركان الرذاذ، وانحباس النفس قد تعود ولا تعود لكنها لن تعود..لن تعود. كلمة تختصر موسوعات ومجلدات وتاريخ عمره عمر الدهر، تتسعنا ولا نتسعها في ثلاثة حروف (شوق)، فلا نجد إلا كلمة أخرى أيضا من ثلاثة حروف، وكأنها قيست على مقاسها لتكون دواءها (حمد)، فالحمد لله على كل حال.
مشاركة :