تساءلت وأنا أطوي آخر صفحة من رواية «نازك خانم» للكاتبة السورية لينا هويان الحسن كيف كان يمكن أن تكون نهاية هذا النص التراجيدي لو لم تكن سورية اليوم عرضة لنار حرب أهلية حارقة ومدمرة؟ «نازك خانم» رواية سيرية لشخصية ملأت عصرها بقوة. عصر مملوء بالصراعات والتناقضات. عصر أسراره حروب وصراعات داخلية مدمرة، لا نراها في المشهد الروائي العام لكننا نشم روائح بارودها ودمها. المشهد ههنا لا يرينا إلا امرأة، نازك خانم، في عز انفتاحها وشبابها وكفاحها من أجل تغيير مجتمع غارق في تخلفه وفي نموذجه المتوارث وكأنه مقدس. دليلها الأوحد عفويتها وجمالها وحريتها التي لا تقايضها حتى الموت، وحواسها الأكثر عمقاً التي ترفضها أن تموت باسم أية شرطية أخلاقية أو دينية غير صحيحة. نحن داخل مناخات متعددة، سقوط الدولة العثمانية بكل تخلفها وحضور الغرب بآلته الحربية وقيمه ونموذجه الذي خلخل كل البنى التقليدية المتهالكة، وخلق تناقضات مجتمعية كبيرة هزت الكيانات المستقرة ولو شكلياً، مناخات الحرية التي تشكلت لاحقاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي أفرزت حالة من التعطش إلى الحرية في شكل عام والنسوية في شكل خاص، في ظل الإضرابات الطلابية الكبيرة في فرنسا عام 1968. الرواية لا تقول هذا كله لكنها تتحرك في أجوائه العامة أو بقاياها. يضاف إلى ذلك الوضع السوري في الستينات والسبعينات من القرن الماضي والانقلابات والجرائم السياسية والأخلاقية. هذا كله يشكل خلفية او «باكغراوند» الرواية التي لا يمكن فهمها من دون التعمق فيه. تضعنا الرواية بين تحولين متناقضين: انهيار شيء كان يبدو ثابتاً وراءه ترسانة من الأخلاق والفرمانات والقوانين، وبداية نشوء شيء آخر لم تكن ملامحه بالصورة الواضحة اليوم، يسحب وراءه كل ما كان يقيناً مطلقاً ولا يمكن تفاديه، وهو ما جعل هذا النص ينحو نحو التراجيديا بعمق في النهاية. محكوم على المصائر البشرية ومنها مصير نازك خانم أو هانم إلا أن تكون قاسية. الحرية لا تمر بسهولة أمام وهم الأصول والثقافة الأخلاقية. كانت نازك تعرف وهي تستعد للهرب إلى باريس مع عشيقها رشيد أن قدرها لن يكون إلا صعباً. فقد وصلت غيرة زوجها كمال الذي حجبها إلى سقفها. وكان من المستحيل تفادي الطلق الناري الذي أصابها في مقتل. ولم يكن مصير صديقتها البربرية الجزائرية وسيلة بوسيس أفضل. بل كانت ضحية لعبة مجنونة. فالسكير الذي وضع على رأسها قنينة الويسكي أصابها بطلقه الناري في الدماغ بدل أن يصيب القنينة. كل المصائر فجائعية في هذه الرواية: القاتل والمقتول. لا الأول استطاع أن ينتقل من ضوابط تخلفه إلى الأمام ولا الثاني استطاع أن يعيش حداثته كما اشتهاها. تلك معضلة العالم العربي كله الذي يراوح منذ النهضة بين أصالة جامدة وحداثة شبه مستحيلة... لا تُعاشان إلا كحالات قشرية أو انفصامات خطيرة، وليس بعمق. كيف استطاع كمال أن يكون شاعراً كبيراً وفي الوقت ذاته طاغية بكل انتكاساته الداخلية؟ ألا يشبه في ذلك هتلر المولع بحبيبته إيفا براون قبل أن يأخذها نحو أعماق الدهاليز وينتحر برفقتها؟ علينا أن نتخيل مصائر كمال ورشيد والغني الإيراني العاشق لوسيلة بوسيس، والسكير المغربي وسط عمى كلي سيده الجهل والموت المجاني. ألا يشبه هذا ما يحدث اليوم في سورية التي فقدت أية بوصلة للعودة إلى الوضع السابق؟ وهل الوضع السابق جيد؟ أليس هو من أسس للوضع اللاحق؟ التراجيديا هنا ليست لغة ولكنها أفعل محكوم عليها أن تنتهي تلك النهايات في ظل الانهيار الذي يبدأ صغيراً قبل أن يتعمم وينهار كل شيء في أثره. ربما كان ذلك كله هو مسار الحرية. للحرية ثمن. وهذا الثمن قد يكون شديد القسوة وأحياناً يكون بلا جدوى بالنسبة الى الجيل الذي عاشه. فقد مارست نازك خانم حريتها بلا أسئلة عن مصير قدري كانت تخطه بالدم في كل خطوة تخطوها. عاشت خياراتها في سن شبابها باندفاع كبير ولم تسأل ماكنة التخلف التي كانت كل يوم تتسع قليلاً. ولم تسأل عن محيطها الذي كان يريدها سيدة في ظل نفاق عام يمارسه الجميع، ولكنها في النهاية، من دون قصدية أيديولوجية، أدخلت عناصر الحرية في مجتمع كان لا يزال مغلقاً. عاشت في باريس وجالت بين دور العطور وعرضت لأكبر دور الموضة، وظهرت في مجلاتها المختلفة شبه عارية. وفجّرت غيرة الدمشقيات. كانت كلما عبرت شوارع دمشق أثارت غيرة النساء وعشق الرجال. حركت مجتمعاً بكامله أو لنقل طبقة بكاملها كانت واقعة بين كذبة إرضاء المجتمع والتخفي في تخلفه وحقيقة حداثة طاغية لم يكونوا قادرين على استيعابها وتحملها كما هي أو مساءلتها، فركنوا داخل حالة خاصة من النفاق المجتمعي المتحكم إلى اليوم في العلاقات البشرية. طبعاً يدفع الثمن الرمزي في مكان الجميع من كان ظاهراً في مشهد الحداثة. الأيقونة يجب أن تحرق لأن لا مكان لها في لعبة المصالح الخفية التي لم تكن عفوية، لم تكن نازك خانم قادرة على إدراكها وهي تلعب اللعبة الحارقة بوصفها فعلاً ذاتياً. على رغم أن الأثرياء ظل كل واحد منهم يحلم بامتلاكها في قصره، إلا أنها رفضت كل الغوايات التي تطمسها بما في ذلك غواية زوجها الذي ظل يُستِّتُها ويغرقها بالشعر الرقيق الذي حوله جنون الغيرة والتملك إلى وحش كاسر، واختارت نازك خانم أن تظل حرة، وسيدة نفسها حتى الموت. «نازك خانم» رواية سيرية لأنها سارت على هدي حياة امرأة حقيقية وُجِدت تاريخياً، لكن الكاتبة تدخلها ضمن عالم شبيه لنا ولعصرنا، بشخصيات متخيلة نتصور كأننا نعرفها أو رأيناها تمر أمامنا أو حتى عايشناها. فتتبعت حياتها لدرجة الانغماس فيها، وتحول النص إلى بيوغرافية حقيقية لشخصية حقيقية أيضاً في الكثير من تفاصيله. وهذا يضعنا أمام إحدى كبريات المشكلات النقدية: مشكلة التجنيس. أي التأرجح بين الرواية والسيرة أو ما بينهما، أي الرواية السيرية. وربما كان المصطلح الأخير والأقرب في هذه الحالة. أعتقد أن الروائية وجدت نفسها بين خيارين صعبين وحسمته لمصلحة الخيار الثاني الأقرب إلى الرواية: إما الاشتغال على المادة التاريخية وجمعها وتنظيمها مما يستغرق وقتاً مرهقاً ولا نعرف إذا ما كان هناك ضامن لاستمرار للجهد ووصوله إلى النهاية في ظل المادة التاريخية الشحيحة، أو الخيار الإبداعي الذي يقتضي توافر كتابة هاجسها الأول الإبداع ولا يضر إذا كانت مؤثثة بمادة تاريخية مساندة للجهد الكتابي. فاختارت حياة نازك خانم ومسارها الحياتي واشتغلت عليه بجدية وجمال. هذا الخيار أعطى الكاتبة حرية أكثر في التعامل مع التاريخ ومع الإبداع. فكان المنتَج النهائي رواية أنيقة بها رائحة ألوان بيكاسو وعطر إيف سان لوران وغيرلان وكريستيان ديور ورائحة جلد كراسي السيارات الأنيقة التي كانت تركبها وتمشي حافية في شوارع دمشق. وختاماً، فنازك خانم الجميلة إيقونة الحرية في الستينات هي نفسها تراجيدية الخوف والهزيمة والموت في انهيارات السبعينات. وكأن الشخصيات التي صنعت الفرح والنور هي نفسها، في مشهدية عكسية، من صنع مصائر الخوف والخسارات والموت القاسي. هي رواية انتصار الحرية بطعم هزيمة غامضة. ذهبت الى الشام التي كانت في عزّها وحلّت محلها شام أخرى هي شام الموت والتطرف الديني والتقتيل المجاني. هل قصدت الروائية السورية المميزة لينا هويان ذلك، أم أنها هي أيضاً واقعة شعورياً تحت ضغط وضع يشتغل في الخفاء؟ أصبح يتحكم في غالبية الكتابات الروائية السورية في الآونة الأخيرة: خالد خليفة، مها الحسن، نهاد سيريس، نبيل سليمان وغيرهم، ويحول القصص التي بناها من حاضر رجراج وحارق وتاريخ غير يقيني، إلى استعارات قاسية تقول الحاضر بطريقتها وتقول الماضي الذي يتخفى وراءه. لهذا أعود إلى تساؤلي البدئي: كيف كانت ستكون النهاية لو لم تكن الحرب الأهلية هي لغة الحاضر في سورية؟ هل كانت لينا ستنتج النص نفسه بالآليات نفسها وبالمنطق العميق نفسه؟ آداب وفنون
مشاركة :