«امرأة لا قبر لها» لآسيا جبار: نساء الجزائر في اختفائهنّ

  • 4/6/2017
  • 00:00
  • 38
  • 0
  • 0
news-picture

في العام 2002، وقبل رحيلها بسنوات قليلة، أصدرت الكاتبة الجزائرية آسيا جبار، وبالفرنسية كما دأبها في جميع كتاباتها، واحداً من كتبها الأخيرة. كان عنوان الكتاب «امرأة لا قبر لها»، وكان موضوعه توثيقياً أكثر منه روائياً، لكن الكاتبة بأسلوبها الجزل ولغتها الأنيقة الدافئة، وإحساسها بنوع من الضيق تجاه الشخصية التي كرست الكتاب للحديث عنها، لم تتمكن إلا أن تعطي النص نكهة روائية واضحة، وبخاصة، كما يبدو، لأن المعلومات الحقيقية المتوافرة عن تلك المرأة ليست يقينية تماماً، ولا هي كافية في حدّ ذاتها لاستكمال التحية العميقة التي توخّت جبار أن يشكلها الكتاب. ومن هنا نراها تتخيّل تفاصيل ومشاعر قد لا يخيّل الى القارئ أبداً أنها متخيّلة في سياق السرد الجميل الذي قدمته. > ومع هذا كانت الشخصية التي تكتب عنها صاحبة «نساء الجزائر في بيتهن» (عمل توثيقي أيضاً) و «نوبة نساء جبل شنوة» (فيلم سينمائي نصف روائي/نصف توثيقي)، في «امرأة لا قبر لها» سيدة حقيقية هي زليخة التي بعد حياة حافلة ودراسة ثانوية متقدمة وزيجات عدة، كانت أول النساء اللواتي انضممن الى الثورة الجزائرية، فالتحقت بالثوار الأوائل وهي في الأربعين من عمرها، تاركة بيتها وأولادها وزوجها الأخير الذي كانت تشعر تجاهه بذلك المزيج من النفور والتعاطف الذي لن يفوتنا أن نحسّ به طاغياً على مشاعر «ليلى» الشخصية المحورية في فيلم «نساء جبل شنوة» والتي يمكن القول انها تدين بالكثير لزليخة. وفي العام 1958، كما تقول آسيا جبار، اعتقلت السلطات العسكرية الفرنسية زليخة خلال جهادية، لتختفي تلك السيدة منذ ذلك الحين تماماً، من دون أن يكون لها قبر. والحال أن كتاب آسيا جبار إنما هو محاولة للعودة الى حياة تلك السيدة والى حروبها المتعددة، ضد المستعمر، ضد الذكورية الطاغية في بلدها بخاصة في صفوف رجال الثورة، الذين ستقول لآسيا جبار إنها من ناحيتها قد كفّت عن الاحتفال بهم منذ زمن بعيد ولا سيما «منذ بدأت أرصد ما الذي فعلوه بالثورة، كما بالإستقلال». > وتقول جبار أن رواية «امرأة لا قبر لها» كانت قد تكونت في ذهنها خلال العامين 1981-1982 بعدما انتهت من كتابة «نساء الجزائر في بيوتهنّ» حيث كانت زليخة الحقيقية واحدة من النساء اللواتي أُتي كثيراً على ذكرهن خلال العمل على الكتاب. «يومها، تقول الكاتبة، كتبت نحو خمسين صفحة بسرعة عجيبة، ثم توقفت... متحيّنة الفرصة للعودة اليها. وهي ظلت تؤرقني. كنت أريد من خلال الكتابة عنها أم أعرف المزيد، أن أتقمص تلك المرأة المدهشة. وأن أتوغل في حياة بطلة بعيداً من الكليشيهات المعتادة في الحديث عن البطلات... ومن هنا جاءت الصعوبة، ليس من ناحية المحاظير، إنما من ناحية الصدق. ولعل إحساسي بالذنب تجاه هذه المرأة هو ما دفعني، حين انتهيت من تصوير فيلمي «نوبة نساء جبل شنوة» ومن تجهيزه للعرض، الى إهداء الفيلم إليها. يومها سألني كثر من هي تلك السيدة التي لا أثر لها في الإعلام الرسمي. وفي ظني أن الرواية التي تأخرت نحو ربع قرن، هي الجواب». وتقول جبار أن امرأتين استثنائيتين عرفتا زليخة عن قرب قد ساعدتاها، ليس فقط في جمع المعلومات، بل بخاصة في «السفر الى داخل الشخصية، لا سيما منهما العمة زهرا الفلاحة التي تطالب منذ زمن بمأوى في المدينة لها ولأيتام زليخة، لكن السلطات لا تستجيب لطلبها لأنه لا تكتبه بالعربية، بل بالبربرية التي لا تتقن سواها!». > أما بالنسبة الى آسيا جبار، واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء املحاين، فهي قضت طفولتها والسنوات الأولى من الدراسة في مدينة موزاية بالبليدة لتنتقل مع عائلتها، كما تقول سيرتها الرسمية، الى فرنسا حيث شرعت في دراستها الثانوية في باريس لتعود بعد الاستقلال وتدرس في جامعة الجزائر. ولئن كانت آسيا جبار قد خاضت الكتابة الروائية في شكل خاص طوال ما يزيد على خمسين عاماً، فإنها اهتمت كذلك بالتاريخ، وكان لها إسهام سينمائي بدءاً من سنوات السبعين جعلها تعتبر في عداد السينمائيين الجزائريين الذين حققوا سينما ناقدة ومشاكسة، ولكن أولاً وأخيراً، سينما نسائية. ولو عبر فيلمين وحيدين كانت ككل منهما، ولكن لأولهما بصورة خاصة، أصداء كبيرة. ولعل الغريب في مسار آسيا جبار عدم إقدامها وهي صاحبة متن روائي بديع، رشح مرات ومرات لأرفع الجوائز العالمية بما فيها جائزة نوبل، وأوصلها الى أن تكون، قبل رحيلها بسنوات عضواً في الاكاديمية الفرنسية المسماة «مجمع الخالدين»، عدم إقدامها على تحقيق أي فيلم من واحدة من تلك الروايات ذات العناوين اللافتة والحاضرة بقوة في الحياة الأدبية الفرنسية بدءاً من «العطش» (1953) ومن ثم «المتلهفون» (1958)، ثم تباعاً «أطفال العالم الجديد»، و «نسوة الجزائر في بيوتهن» (1980) و «الحب الفانتازيا» (1985) و «الظل السلطان» (1987) و «الملكة المستترة» (1990) «بعيداً من المدينة المنورة» (1991) و «بياض الجزائر» (1998)... وهو كتاب تروي فيه ذكرياتها مع بعض المثقفين الجزائريين من الذين سقطوا ضحايا بأيدي المتطرفين خلال الأحداث التي عرفتها الجزائر إبان العشرية الأخيرة من القرن العشرين. والحقيقة أن لائحة روايات ونصوص آسيا جبار الأخرى، يمكن أن تطول أكثر. بالتالي كان في إمكانها أن تنهل فيلماً مميزاً من أي منها. لكنها حين جمّدت نشاطها الكتابي، موقتاً، في سبعينات القرن العشرين وآثرت أن تنصرف الى السينما والمسرح، اتجهت اتجاهاً آخر تماماً: اتجهت صوب مجتمعها وفهم عالمه الأنثوي وغاصت في اللغات المحلية، لتعبر عن مجتمع أنثوي لم يكن له حق الكلام. > ولقد تجلى هذا في شكل خاص في «نوبة نساء جبل شنوة» (1977) الذي شكل لقاء فريداً بين الكتابي والسينمائي في الجزائر، كما شكل عودة آسيا جبار للقاء بمسقط رأسها (جبل شنوة الذي يقع قرب ولاية تيبازا). وهي على أية حال قالت فيما كانت منكبة على إنجاز هذا الفيلم، إذ سئلت عن علاقته بالأدب «بهذا الفيلم ايضاً اشتغل على الأدب. بل أمرّ من الأدب المكتوب الى الأدب الشفوي، أؤكد دوراً لمبدأ التوصيل. في بداية هذا المشروع بدأت بالاستماع لحكايات النساء. حققت العمل في منطقتي الأصلية. لقد قبلت من طرفهن، ليس لأنني كاتبة، بل لأن لي علاقات معهن. وأنا فيما كنت استمع اليهن كانت ثمة صور تتشكك في خيالي ومن خلالها يتشكل الفيلم ايضاً». * وفي عودة الى فيلم آسيا جبار «نوبة نساء جبل شنوة»، لا بد من الإشارة الى أنه، حتى خارج القضية المتعلقة بزليخة فيه وإن على هامشها، أتى من ناحية الإشكالية الأساسية التي يطرحها مختلفاً الى حد كبير عما اعتاد طرحه زملاؤها جبار من مواطنيها السينمائيين الجزائريين في أعمالهم، وإن كانت تصب هي الأخرى بدورها في التساؤلات التي كانت تنطرح كالتحدي الحازم أمام مثقفي الجزائر: تساؤلات تتناول الهوية، والماضي القريب، والحاضر وآفاق المستقبل. مضافاً اليها تساؤل حول المرأة... دور المرأة في الثورة الجزائرية، من دون المرأة في الحاضر الجزائري... ودور هذا كله في حياة المرأة نفسها وهي تحديداً الأسئلة التي تطرحها الكاتبة/السينمائية في «امرأة لا قبر لها». مهما يكن، كان من الأمور ذات الدلالة ان تختار آسيار جبار، ابنة المدينة والثـــقافة الفرنكـــوفونية «البورجوازية» لطرح اسئلتها هذه، في شكل محوري، السيدة «ليلى» المثقفة البورجوازية التي تصورها لنا وهي تعود الى مسقط رأسها بعدما عاشت حرب الجزائر في المنفى، مؤجلة سنوات طويلة حديثها عن «بطلة» الرواية التي نتحدث عنها هنا. ترى أولسنا في الحالتين هنا أمام أنا/ أخرى لآسيا جبار نفسها، ما يقترح شيئاً من سيرة ذاتية؟ أبداً بالتأكيد. وذلك على المستوى الواقعي على الأقل، إن لم يكن على المستوى الرمزي. وذلك لأن لليلى، في الفيلم، زوجاً مقعداً كان من الثوار في الماضي القريب. مع هذا الفيلم المتأرجح بين الوثائقي والروائي، كان في وسع المتفرج ان يكتشف، عبر كاميرا آسيا جبار الذكية والمتحركة، وعبر لغتها السينمائية المقتربة من لغة الأدب المصوّر، واقع المرأة الجزائرية، ودورها الصامت و «المجهول» خلال الحرب، أما بالنسبة الى زليخة فإنها، وكما تؤكد الكاتبة، شيء آخر تماماً، شيء خاص جداً.

مشاركة :